ملاحظة هامة : لا مانع من نسخ أي جزء من البحث بشرط ذكر المؤلف وعنوان البحث ضمن المراجع وإلا ستعتبر سرقة علمية , ومن يفعل ذلك يعرض نفسه للمسائلة القانونية
ذكر الدكتور
نورالدين عتر في منهج النقد (1) تحت عنوان شبهات ومناقشات قوله:
(( لكن بعض الناس
ممن لم يتمعن منهج المحدثين وأعمالهم العلمية القيمة تصور هذا المنهج النقدي تصورا
شائها يقلب حقيقته، ويغير الواقع تغييرا يدعو للنقد والاعتراض. وهو فيما يبدو ما وقع
فيه كثير من المستشرقين الذين كتبوا عن هذا العلم، وإذا بهم ينتقدون عمل المحدثين ويطعنون
فيه بمطاعن شاعت بينهم وإن كان قد حمل رايتها أحد كبرائهم مثل جولد تسيهر المستشرق
المجري اليهودي، الذي فاق غيره، حتى "يعتبر الدارسون -أي المستشرقون واتباعهم-
ما توصل إليه في هذا الصدد نتائج حاسمة على وجه العموم، وكان حسبهم عند التعرض للقضايا
الأساسية والتفصيلات الجزئية أن يحيلوا على نتائج جولد تسيهر".
نقول هذا ونحن
نحسن الظن، ولا نفترض أن ثمة في الصدور نزعة تنزغ بأصحابها لتوجيه هذا الطعن، أو أية
عوامل أخرى تدفع بعضهم إلى ذلك.
والحقيقة أننا
ما كنا لنعير شبهات هؤلاء القوم اهتمامنا، ولا نوليهم إشارة أبدا لولا أننا وجدنا من
بني جلدتنا أتباعا ومنبهرين يعملون لنشر أفكارهم، ويرددون مقالاتهم.
ولعل زيف هذه
التقولات أضحى ظاهرا لقارئ هذا الكتاب أكثر من أي وقت مضى بسبب هذه الصياغة التي وفقنا
إليها بفضل الله تعالى، والتي تظهر دقة فلسفة علم الحديث النقدية وإحاطتها بدرس الحديث
من جميع جوانبه.
ولذلك فإنا سنكتفي
باليسير من التذكير للقارئ بالدلائل القاطعة بإبطال تلك المتقولات، نأتي بها بمثابة
تلخيص لنتائج الأبحاث في هذه الخاتمة.
أولا: تدوين الحديث وأثره في الفقه
وهي شبهة شائعة
حتى أصبحت كأنها مسلمة يلقيها بعض المتخصصين في الدراسات الفقهية على طلاب الجامعات
يزعم أن تدوين الحديث تأخر عن تدوين الفقه وانتشار المذاهب الفقهية، وهو بزعمه الأمر
الذي أدى إلى الخلاف بين الفقهاء، بل إن بعض من حمل هذه الفكرة من المتمجهدين قد زاد
على ذلك وراح يبالغ إلى درجة توهم البعد بين بضع المذاهب الفقهية المعتمدة وبين السنة
النبوية..!!.
وهذه الشبهة من
أصلها قول من أبعد النجعة عن الحقيقة، وعمد إلى المبالغة في تضخيم الأثر المتوهم لتأخر
تدوين الحديث المزعوم. والحقيقة التاريخية تثبت خلاف ما ادعاه هؤلاء، وذلك لما تقدمه
فيما يلي:
1- أن حفظ الحديث
قد توفر لدى الصحابة رضوان الله عليهم بأقوى ما يكون، وكان جماعة من الصحابة على إحاطة
بجملة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد وجد في كل صقع وقطر من الأقطار من يؤدي
بلاغ الحديث بجملته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصحابة ثم من التابعين وهكذا،
ناهيك عن حفظهم للقرآن واعتنائهم بدرسه والتفقه فيه، وهو الأصل الأول في التشريع، فكانوا
بذلك بغنى عن التدوين لما وعته صدورهم من العلم.
2- ما سبق أن
ذكرناه من تحقق التدوين منذ عهده صلى الله عليه وسلم، وهو على كل حال يدل على أن الحديث
حظي من التدوين والنشر بما لم يحظ به الفقه إلا بعد عهد.
3- أن تدوين الفقه
بدأ في ضمن تدوين الحديث، حيث جمعت المصنفات والموطآت الأحاديث المرفوعة والآثار الموقوفة
والمقطوعة
فالحقيقة أن العكس
هو الصواب، وهو أن تدوين الحديث سبق تدوين الفقه، وانتشار المذاهب.
(1)
4- أن أسباب الخلاف
بين الفقهاء ترجع في حقيقتها إلى أمور جوهرية أوسع وأبعد مدى بكثير جدا من غيبة حديث
أو رواية عن الفقيه، ولو استقصينا المسائل التي وقع فيها الخلاف بسبب ذلك لكانت مسائل
يسيرة من أبواب الفقه، كثير منها في الآداب والمستحبات، أما سائر المسائل الخلافية
فيرجع الخلاف فيها إلى أسباب جوهرية أخرى تتصل بطبيعة تلك المسائل الاجتهادية التي
من شأنها ومن سنة الله أن تختلف فيها الفقهات والأفهام، سواء في ذلك قوانين الشريعة
الإسلامية، والقوانين الوضعية، كما هو معلوم لمن ألم بأوضاع التطبيقات القانونية.
وقد وقع الخلاف
في عهده -صلى الله عليه وسلم- بين الصحابة في نص واحد وجهه إليهم جميعهم يوم بني قريظة،
ولم يعنف صلى الله عليه وسلم أحدا من الفريقين، وها هي ذي المصادر الإسلامية فيها الكثير
مما يرويه الفقيه من حديث صحيح لا شك في صحته عنده ثم يخالف ما دل عليه ظاهر الحديث
لقيام دليل آخر عنده على خلافه، أو لأن له فهما في النص غير الفهم الذي وقع لغيره،
أو غير ذلك من الأسباب التي يطول شرحها، وموطأ مالك مثال ظاهر لذلك، فقد روى فيه أحاديث
كثيرة، ولم يعمل بظاهرها.
هذا كله وغيره
كثير من الوجوه تبطل ادعاء تأخر تدوين الحديث عن تدوين الفقه، وتبطل زعم أن ذلك التأخر
كان منشأ تفرق المذاهب الإسلامية الفقهية.
ثانيا: التدوين وأثره في صحة الحديث
هذه دعوى اخترعها
بعض غلاة المستشرقين من قديم، وأقام بناءها على وهم فاسد سبقت مناقشتة في بحث كتابة
الحديث.
يقول هذا الزعم:
أن الحديث بقي مائيت سنة غير مكتوب، ثم بعد هذه المدة الطويلة قرر المحدثون جمع الحديث،
وصاروا يأخذون عمن سمعوا الأحاديث، فصار هؤلاء يقول الواحدج منهم: سمعت فلانا يقول
سمعت فلانا عن النبي صلى الله عليه وسلم.
لكن لما أن الفتنة
أدت إلى ظهور الانقسامات والفرق السياسية فقد قامت بعض الفرق بوضع أحاديث مزورة حتى
تثبت أنها على حق.
وقد قام عليماء
السنة بدراسة أقسام الحديث ونوعوع إلى أقسام كثيرة جدا، وعلى هذا يصعب الحكم بأن هذا
الحديث صحيح أو هذا الحديث موضوع.
وقد سبق لنا في
بحثو كتابة الحديث، وتأريخ الإسناد، وشروط الرواة، التحقيق الذي يغني عن نقاش هذا الزعم،
فنكتفي بهذه الخلاصات للرد عليه هنا:
1- أن تدوين الحديث
قد بأ منذ العهد الأول في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، وشمل قسما كبيرا من الحديث،
كما حققناه بالأدلة القاطعة، وأشرنا إلى أمثلة من تلك الكتابة. وننبه هنا إلى ما يجده
المطالع للكتب المؤلفة في رواة الحديث من نصوص تاريخية مبثوثة في تراجم هؤلاء الرواة
تثبت كتابتهم للحديث بصورة واسعة جدا تدل على انتشار التدوين وكثرته البالغة، حتى لقد
يقع في ظن الباحث أن الحديث قد دون جميعه منذ عهده المبكر.
2- أن تصنيف الحديث
على الأبواب في المصنفات والجوامع مرحلة متطورة متقدمة كثيرا في كتابة الحديث، وقد
تم ذلك قبل سنة 200 للهجرة بكثير، بل أنه قد تم في أوائل القرن الثاني، بين سنة
120-130هـ. بدليل الواقع الذي يحثدنا عن ذلك، فهناك جملة من هذه الكتب مات مصنفوها
في منتصف المائة الثانية، مثل جامع معمر بن راشد "154" وجامع سفيان الثوري
"161" وهشام بن حسان "148" وابن جريج "150" وغيرها كثير.
وقد وجد العلماء
بعض هذه الجوامع، ويجري الآن تحقيق جامع معمر بن راشد في الهند، ليكون إخراجه شاهد
حق ودليل صدق على ما بيناه في هذه المسألة.
(2)
3- أن علماء الحديث
وضعوا شروطا لقبول الحديث تكفل نقله عبر الأجيال بأمانة وضبط، حتى يؤدي كما سمع من
رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أوضحنا من شروط الراوي التي توفر فيه غاية الصدق
لما اجتمع فيه من الدوافع الدينية والاجتماعية والنفسية، مع الادراك التام لتصرفاته
وتحمل المسؤولية، كما أنها توفر فيه قوة الحفظ والضبط بصدره أو بكتابه أو بهما معا
مما يمكنه من استحضار الحديث وأدائه كما سمعه3، وكما أوضحناه من شروط الصحيح والحسن
التي تكفل ثقة الرواة ثم سلامة تناقل الحديث بين حلقات الإسناد وسلامته من القوادح
الظاهرة والخفية1. ثم بما بيناه من دقة تطبيق المحدثين لهذه الشروط في الحكم على الحديث
بالضعف لمجرد فقد الدليل على صحته، من غير أن ينتظروا قيام دليل مضاد له.
4- أن علماء الحديث
لم يكتفوا بهذا، بل تنبهوا إلى عوامل في الرواية المكتوبة لم يتنبه إليها هؤلاء المتطفلون
بالاقتراح عليهم، فقد اشترط المحدثون في الرواية المكتوبة شروط الحديث الصحيح، لذلك
نجد على مخطوطات الحديث تسلسل سند الكتاب من راوٍ إلى آخر حتى يبلغ مؤلفه، ونجد عليها
إثبات السماعات وخط المؤلف أو الشيخ المسمع الذي يروي النسخة عن نسخة المؤلف أو عن
فرعها..
فكان منهج المحدثين
بذلك أقوى وأحكم، وأعظم حيطة من أي منهج في تمحيص الروايات، والمستندات المكتوبة.
5- أن البحث عن
الإسناد لم ينتظر مائتي سنة كما وقع في كلام الزاعم، بل قتش الصحابة عن الإسناد منذ
العهد الأول حين وقعت الفتنة سنة 35هجرية، لصيثانة الحديث من الدس.
وقد ضرب المسلمون
للعالم المثل الفريد في التفتيش عن الأسانيد، حيث رحلوا إلى شتى الآفاق بحاثا عنها،
واختبارا لرواة الحديث، حتى اعتبرت الرحلة شرطا أساسيا لتكوين المحدث.
6- أن المسلمين
-كما تبين مما سبق. لم يغفلوا عما اقترفه الوضاعون وأهل البدع والمذاهب السياسية من
الاختلاق في الحديث، بل بادروا لمحاربة ذلك باتباع الوسائل العلمية الكافلة لصيانة
السنة في قيود رواية المبتدع1، ولبيان أسباب الوضع وعلامات الحديث الموضوع.
7- أن هذا التنوع
الكثير للحديث ليس بسبب أحواله من حيث القبول أو الرد فقط، بل إنه يتناول إضافة إلى
ذلك أبحاث رواته وأسانيده ومتونه، وهو دليل على عمق نظر المحدثين ودقة بحثهم، وقد بحثنا
ذلك في جلاء في هذا الكتاب، فكان على هذا القائل أن يسلم لهم، كما أننا نستدل على دقة
العلم وإحكام أهله له بتقاسيمه وتنويعاته. بل لا يعبد علما ما ليس فيه تقسيم أقسام
وتنويع أنواع؟!!
8- إن علماء الحاديث
قد أفردوا لكل نوع من الحديث وعلومه كتبا تجمع أفراد هذا النوع من أحاديث، أو أسانيد
أو رجال، كما أوضحناه في بحث كل نوع في كتابنا هذا، فلا يصلح بعد هذا أن يقول قائل
كيف نعرف هذا الحديث أنه صحيح من بين تلك الأنواع.
ونحن نقول له:
كذلك وقع التنوع في كل علم وكل فن، فلو قال إنسان كيف نحكم على هذا المرض بأنه كذا
وأنواع الأمراض تعد بالمئات، وكيف نبين هذا المركب الكيمائي من بين المركبات التي تعد
بالآلاف لحلناه على الخبراء المتخصصين ليأخذ منهم الجواب الشافي، والحل المقنع.
فكما يرجع في
الطب إلى الأطباء، وفي الهندسة إلى المهندسين وفي الكيمياء إلى علمائها، والصيدلة إلى
أصحابها.... كذلك فارجع في الحديث إلى علماء الشرع المتخصصين في هذا العلم لأخذ البيان
الجلي المدعم بالأدلة القاطعة عن كل حديث تريده وتود معرفة حاله.
(3)
ثالثا: المصطلح بين الشكل وبين المضمون
يقول المستشرقون:
".. إن وجهات
النظر التي تبناها النقد الإسلامي للسنة لم يكن بإمكانها أن تساهم في تشذيب المادة
المحترمة للأحاديث من الزيادات التي هي أكثر ظهورا إلا في مقياس محدود، ففي النقد الإسلامي
للسنة تهيمن النزعة الشكلية في القاعدة التي انطلق منها هذا العلم.
والعوامل الشكلية
هي بصورة خاصة العوامل الحاسمية للحكم على استقامة وأصالة الحديث، أو كما يقول المسلمون
على صحة الحديث، وتختبر الأحاديث بحسب شكلها الخارجي فقط، ثم إن الحكم الذي يمس قيمة
مضمونها يتعلق بالقرار الذي يعطونه حول تصحيح سلسلة الرواة. وعندما ينتصر إسناد في
امتحان هذا النقد الشكلي ويكون قد نقل به فكرة مستحيلة ملوثة بتناقضات خارجية وداخلية
وعندما يقدم هذا الإسناد سلسلة غير منقطعة لشيوخ جديرين بالثقة تماما وعندما يبرهن
على أن هؤلاء الأشخاص كان في إمكانهم أن يكونوا على صلة فيما بينهم فإن الحديث يعتبر
عند ذلك صحيحا، ولا يبادرن أحد لأن يقوفل: بما أن المتن يتضمن استحالة منطقية أو تاريخية
فإني أشك في أن يكون الإسناد منتظما".
هذا أخطر اشكالات
المستشرقين وأشهرها، وإن كان أشدها ضعفا وأوضحها سقوطا، لكنهم عنوا بتسديده نحو قواعد
المصطلح ليظهروا هذا العلم بمظهر العلم الناقص الذي يرى شيئا شكليا هو ما أسموه
"النقد الخارجي" أي نقد السند، على حين أنه يعشو بصره عن أشياء خطيرة في
النقد، حيث إنه بزعمهم لا يعتني بنقد المتن الذي يسمونه "النقد الداخلي"،
وقد سرت العدوى بهذا الظن الخاطئ إلى بعض كتابنا ومفكرينا مثل الدكتور أحمد أمين، والدكتور
أحمد عبد المنعم البهي، فقد كرر الدكتور أن هذا الطعن في المحدثين، بدافع من التقليد
للمستشرقين وحب التظاهر على الناس بمعرفة شيء خفي بزعمهم عن الأئمة الكبار، من حيث
إن هؤلاء المقلدة هم ومتبوعوهم ليسوا من علم المحدثين في ذلك المكان، ومَثَلُ الدكتورين
في مقاليهما كمثَلِ تلميذ يتلقف ما يسمعه ثم يردده دون أن يدرك ما فيه من عظيم البهتان.
ومن الدليل على
ما قلناه:
1- أن الدكتور
أحمد أمين ذكر أنهم قسموا الحديث بحسب النقد الخارجي إلى صحيح وحسن وضعيف وشاذ..إلخ.
والحقيقة التي نعرفها منذ حداثة عهدنا بعلم الحديث أنهم قسموا الحديث بحسب النقد الداخلي
والخارجي إلى الأقسام التي ذكرها، لا بحسب النقد الخارجي فقط.
بيان ذلك أنك
تجد من شرط الحديث الصحيح والحسن أن لا يكون شاذا ولا معلا، ثم نقرأ كلام القوم وإذا
بهم يقسمون الذوذ إلى شذوذ في المتن وشذوذ في السند، كذلك يقولون: إن العلة قد تكون
في المتن كما قد تكون في السند، فلو كان ناقد المحدثين اطلع على مؤلف يسير في علم الحديث
أكان يجترى على أن يقول ما قال، بل إنا نكتفي منه أن ينظر نظرة في تعريف علوم الحديث
إذا لوجده علما يبحث في أحوال السند والمتن، لكنه سقط فيما عابه بزعمه على المحدثين
بسبب تقليده للمستشرقين حيث إنه لم يتثبت ولم يعتبر ظروف المستشرقين التي هي أكبر دافع
يدفع لاختلاق المطاعن، فحق عليه المثل رمتني بدائها وانسلت".
2- أن المحدثين
قد احتاطوا من النظرة الشكلية حيث قرروا قاعدة اتفقوا عليها وهي أنه لا تلازم بين صحة
السند وصحة المتن، بالعكس أيضا فإنه لا تلازم بين ضعف السند وضعف المتن، وهذا واضح
في قواعد هذا العلم مسلم به لا يحتاج إلى الاستكثار من النقول والتطويل بها1. وهو يدل
بما لا يدع مجالا للشك على أن المحدثين النقاد قد احتاطوا لكل احتمال وأعدوا له العدة
العلمية في منهج موضوعي متعمق بعيد غاية البعد عن الشكلية والانخداع بالمظاهر.
3- أن النقد الداخلي كان أول علوم الحديث وجودا حين كان الناس
على العدالة، وذلك في عصر الصحابة كما سبق بيانه2. والعجيب أن الدكتور أحمد البهي قال
في آخر مقالته التي أومأنا إليها: "وقد ذكر العلماء وجوها في رد المتن بناء على
معناه مع صحة السند ... "، ومثل لذلك بقصة فاطمة بنت قيس3، وقصة علي بن أبي طالب
حين رد حديث معقل ابن سنان في مهر من مات عنها زوجها ولم يدخل بها ولم يسم لها مهرا
فقال علي رضي الله عنه: "لا ندع كتاب ربنا لقول أعاربي بوال على عقبيه".
(4)
الأمر الذي يبين أن الكاتب غلب عليه التقليد فجاءت
مقالته متناقضة ينسف آخرها أولها!!، وتثبت هي نفسها أن النقد الداخلي قد عني به المحدثون
منذ قديم العهد برواية حديث النبي صلى الله عليه وسلم، بل إنا نجد أن نقد المتن يؤدي
إلى الحكم على الحديث بأشد الأحكام وهو الوضع، حيث قرروا أن الوضع قد يعرف من النظر
في المروي، كما سبق أن أوضحنا وجوهه العديدة.
4- أن فكرة الاعتماد
على النظر في المتن وحده ليست من اختراع المستشرقين، بل أن تجربتها قد سبقت في تاريخ
المسلمين القديم على أيدي أناس جعلوا الرأي وحده يتحكم في المتون سلبا وإيجابا نفيا
وإثباتا، وقد أسفرت التجربة عن أسواء النتائج وأغرب التناقضات.
لقد استحسن بعض
المتزهدين الجهلة وضع الحديث في الترغيب والترهيب وقالوا: "نحن نكذب له"،
والوعليدإنما جاء لمن "كذب علي"، فجعلوا هذا العبث في النص الصريح ذريعة
للاختلاق على النبي صلى الله عليه وسلم، وكأنهم جهلوا أن فعل "كذب عليه"
معناه ألصق به ما لم يقله، سواء أكان مؤيدا له أم طاعنا فيه، وهكذا أدى التصور الخاطئ
بهذه الطائفة إلى أن تتصور أن كل كلام صحيح فإنه قاله رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
فصاروا يسندون ما يشاؤون إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو منه ومنهم براء.
وفي الطرف المقابل
نهض أناس لرفض المتون الصحيحة لمجرد بعدها عن خيالاتهم ومألوفاتهم، كما فعل بعض المبتدعة
من المعتزلة وغيرهم، وإذا بهم يبلغون من الإسفاف مبلغا عظيما، حيث راحو يتحكمون إلى
المشاهدات المادية المعتادة يقيسون عليها ما ورد من النصوص في عوالم مغيبة غير عادية،
كالأحاديث في الملائكة أو الجن ينكرونها أو يتأولونها تأويلات هزيلة، حتى خرجوا بذلك
عن نصوص الإسلام القطعية، بل عن الأديان السماوية، فلو رام أحدهم أن ينتقل إلى النصرانية
لما وجد له فيها متنقلا، أو إلى اليهودية لم يجد متسعا..!!.
وهذا كله يثبت
أبلغ إثبات أن نقد المتون ليس له بمفرده تلك الجدوى إلا إذا كان في ضمن الاطار العام
لنظرية النقد الشامل الذي سلكه المحدثون وانتهجواه.
5- أن النقد الخارجي
للأحاديث أن نقد الأسانيد الذي عابه العائبون وسموه شكليا يتصل اتصالا وثيقا بالنقد
الداخلي أن نقد المتون، لأن إثبات ثقة الرواة وكونهم جديرين بالثقة هذا الذي استخف
به تسيهر وأشياعه ليس عملا شكليا سطحيا، بل إنه مرتبط بالمتن ارتباطا قويا، وذلك لأن
توثيق الراوي لا يثبت بمجرد عدالته وصدقه بل لا بد من اختبار مروياته بعرضها على روايات
الثقات، فإن وجدنا رواياته موافقة ولو من حيث المعنى لرواياتهم أو موافقة لها في الأغلب
والمخالفة نادرة عرفنا حينئذ كونه ضابطا ثبتا.
وهذه كتب الجرح
والتعديل ملأى بالجرح لرواية المناكير والأباطيل نسوق أمثلة لذلك من كتاب المغني في
الضعفاء للإمام الذهبي:
80- إبراهيم بن
زكرياء الواسطي. قال ابن عدي: حدث بالبواطيل. وقال أبو حاتم: حديثه منكر.
82- إبراهيم بن
زيادة القرشي، عن خصيف، وعنه محمد بن بكار الريان بخبر منكر جدا، ولا يدر من هو؟.
85- إبراهيم بن
زيد الأسلمي، عن مالك، وهاه ابن بان والدراقطني، وله عن مالك خبر كذب.
86- إبراهيم بن
سالم النيسابوريز قال ابن عدي: له مناكير.
فهذه ست تراجم
اخترناها من عشرة فقط من كتاب مختصر جدا في نقد الرواة يأتي جرحهم بنقد مروياتهم. وذلك
يوضح قوة ارتباط نقد السند بالمتن وعلاقته بمرويات الرواة علاقة وشيجة لا يصح أن يدور
حولها جدال.
6- سبق أن بينا أن ظهور الفرق دعا علماء الأمة إلى تحري أحوال
الرواة ودراستها من كافة الوجوه، ولا سيما بيئة الراوي ومذهبه، حتى إنهم لم يقبلوا
رواية من يدعو لبدعة ولو كان الحديث الذي يرويه غير متعلق ببدعته1، فقد كانوا في الاحتياط
أبلغ مما يريده المتطفلون عليهم
(5)
وإننا ندعوا الناقدين
كلهم أن يأتوا بحديث من كتب السنة الأصول يدل على وضعه ما ذكروه من عامل سياسي كدعم
بني أمية أو غيرهم، أو عامل بيئة أو غير ذلك.
اللهم إلا أن
يكون بعض هؤلاء الوالغين في علم المحدثين قد اطلع على بعض تلك الأحاديث في كتاب
"اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة" للإما السيوطي، أو في كتاب
"تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأحاديث الشنيعة الموضوعة" للحافظ أبي الحسن
بن عراق فحسب بما أوتي من السعة في علم الحديث أن هذه الكتب هي مصادر نقل السنة النبوية؟!
فحق له أن يقول ما شاء له القول..!!
وحق للعقلاء المنصفين
أن يقروا بحقيقة الجهود العظيمة والوسائل العلمية الدقيقة التي اتبعها المحدثون في
خدمة الحديث.
رابعا: منهج المحدثين
في حقل تطبيقه
يقول تسيهر ومن
يقلده:
"والناقد
المسلم يبقى باردا أمام المناقضات للتاريخ وللعرف الاجتماعي ذات النوع الأكثر عامية
"يعني أنها مسفة جدا" بشرط واحد هو أن يكون الإسناد بحسب القاعدة. والامتياز
النبوي لمحمد هو وسيلة للتغلب على مثل هذا المشكلات".
ثم يقول بعد ذلك:
"ونوضح هذه
الخصوصية لنقد الحديث عند المسلمين بذكر مثال مأخوذ من حقل تطبيقه نفسه، فيوجد بين
الفئات العديدة من الأحاديث المغرضة فئة نستطيع أن نسميها فئة "أحاديث المذهب"،
وهذه الأحاديث هي الأحاديث المختلفة في داخل نزعة مذهب علمي التي يقصد بها البرهنة
على تفوق هذا المذهب في مقابل نزعة منافسة وأن يخلع شيئا من الثقل والقوة على آرائها
المذهبية الخاصة. ولم تنتحل الأحاديث المغرضة بعدد كبير ضد البدع الاعتقادية فقط، بل
إن الواضعين كانوا يدخلون النبي نفسه كحكم أعلى في الخلاف الذي يفصل بين علماء العراق
وعلماء الحجاز، فللبرهنة على أن أبا حنيفة هو أفضل فقيه من فقهاء الشريعة الدينية اخترع
تلامذته الحديث التالي: "يكون في أمتي يوما رجل يقال له أبو حنيفة وسيكون سراج
الأمة".
الحديث بشكل مباشر
من فم النبي، ولم يجهدوا مطلقا في أن يجعلوا الناس يصدقون بأن النبي قد ذكر فعلا اسم
العالم العراقي".
انتهت الترجمة
الحرفية لما قاله بورشيه مستخلصا عن جولدتسيهر أستاذ المستشرقين المتحاملين على الإسلام.
وقد كنت أتساءل
عن المنهج الذي يريد هؤلاء الناس أن نأخذه عنهم كي نحسن نقد الروايات حتى عثرت عليه
ظاهرا جليا في مناقشاتهم لأهل الحديث، وظهر أوضح ما يكون في هذه الكلمة التي يتحدث
فيها عن مثال تطبيقي من علم الحديث، فإذا منهجهم المنتظر منهج متهافت يقوم على التسرع
في الحكم والمجازفة، بعيدا عن التحقيق والرواية، حتى لقد أصاب هؤلاء الناقدون من أنفسهم
المقاتل بطعنهم المفتعل في منهج المحدثين وتطبيقهم لقواعد الحديث.
بيان ذلك:
1- أن المحدثين
قد ذكروا أن من دلائل الوضع في الحديث مخالفته للوقائع الحسية المشاهدة، أو للتاريخ،
وذلك أمر مفروغ منه في كتب المصطلح، مطبق على أوسع نطاق في نقد الأحاديث كما يشاهد
في كتب الأحاديث الموضوعة.
وهذه واقعة لطيفة
لها دلالتها الهامة جرت مع الحافظ أبي بكر الخطيب البغدادي سنة 447، قال الذهبي في
تذكرة الحفاظ: "أظهر بعض اليهود كتابا بإسقاط النبي صلى الله عليه وسلم الجزية
عن الخيابرة -يعني يهود خيبر-، وفيه شهادة الصحابة، فعرضه الوزير على أبي بكر؟ فقال:
هذا مورو! قيل: من أين قلت هذا؟، قال: "فيه شهادة معاوية وهو أسلم عام الفتح بعد
خيبر، وفيه شهادة سعد بن معاذ، ومات قبل خيبر بسنتين". فاستحسن الوزير ذلك منه
ولم يقبل منهم ما في هذا الكتاب.
(6)
فهذا الناقد المسلم
لا يتردد لحظة ولا يتوقف عن الحكم ببطلان الوثيقة المزورة التي أسندها إلى النبي صلى
الله عليه وسلم أساتذة الأفك في العالم، وها نحن نجعل هذه التجربة التي خاضها أجداد
تسيهر من قبل هدية إليه تعبيرا عن الموقف البارد الذي يزعمه في حق النقاد المسلمين.
ولا ندري إذا كان تسيهر وأمثاله لا يزالون بعد هذا يقولون: "إن الناقد المسلم
يبقى باردا أمام المناقضات للتاريخ وللعرف الاجتماعي ذات النوع الأكثر عامية".
إذن فما الذي يمكن أن يعتبر موقفا حاميا والنووي، والعراقي والعسقلاني، في الأرض المقدسة،
ولن يكون ذلك بعيدا بإذن الله تعالى.
2- زعم أن الامتياز
النبوي أي ادعاء كون الخبر المغيب أو الخارق للعادة معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم
وسية للتغلب على التناقضات التاريخية في الأحاديث.
وهذا القول منه
غاية في المكابرة والبعد عن الحق، حيث أحال المعجزات وإبناء النبي صلى الله عليه وسلم
عن الغيب إلى اختلاق الرواة عوضا من أن يجعله هذا الاعجاز يعيد النظر في موقفه، كما
فعل بعض المستشرقين حيث اعتنق الإسلام حين انزاحت عن بصائرهم غشاوة التعصب.
والحقيقة أن أنباء
الغيب المنقولة عن النبي صلى الله عليه وسلم بالأسانيد الصحيحة الثابتة كثيرة تفوق
درجة التواتر في جملتها، ويبلغ عدد كثير منها التواتر بمفرده، كالأحاديث الواردة في
ظهور المسيح الدجال اليهودي وفي نزول المسيح عيسى بن مريم عليه السلام مما لا يسع أحدا
إنكاره إلا أن ينكر عقله وحسه.
وإذا كانت أنباء
الغيب لا تقبل في زعم تسهير فلا ندري لماذا يتعب نفسه في الطعن على الإسلام واصطناع
البحث العلمي من أجل ذلك وهو إنما يفعل ذلك لتشكيك المسلمين وتشتيتهم تمهيدا لتحقيق
النبوءة المزعومة عن أرض الميعاد!
على أن المسلمين
لم يتلقوا أحاديث الخوارق وأنباء الغيب جزافا من غير تمييز، بل محصوها وفحصوها فصحا
دقيقا ميزوا به الصواب من الخطأ والصدق من الكذب، وها هي ذي الأحاديث الكثيرة في ذم
الأمويين وفي مدحهم وفي التنبئ ببعض الوقائع لهم تملأ بطون الكتب الخاصة بالأحاديث
الموضوعة والتحذير منها، وها هي ذي أيضا الأحاديث الساقطة في فضل العباس وفي التنبي
بدولة العباسيين والأحاديث فيهم مدحا أو غير ذلك قد جمعت في كتب الموضوعات والضعيفات
التالفة للتحذير منها.
أرأيت لو كان
المحدثون يودون إثبات المعجزات ولو بالتلفيق أفما كانوا يختارون من هذه الأحاديث ما
فيه إنباء عن واقع مجرد بعيد عن المدح أو الذم على الأقل؟! فما لنا لا نجد لهذه الروايات
ظلا في كتب السنة المعتمدة؟! ولماذا نجد كتب الموضوعات تحذر من جملة كبير من أحاديث
المعجزات والخوارق ... ؟!
3- إن الحديث
الذي أورده على "أنه مأخوذ من حقل تطبيق هذا العلم نفسه" لهو نفسه برهان
عظيم يثبت دقة نظر المحدثين، فإنهم قد وسموا بالكذب راويه مأمون بن أحمد السلمي الهروي
منذ الأيام التي ظهر فيها وطلع على الناس بهذا الحديث ونحوه، وكان منه آنذاك عصرية
الإمام أبو حاتم بن حبان البستي رحمه الله، كما نقل عنه الإمام الذهبي في ميزان الاعتدال1.
وقد كنت فيما
خلا من الزمن أتساءل عن هؤلاء الناقدين2 أن يكونوا اطلعوا في كتب الأحاديث الموضوعة
والتالفة على بعض تلك الأحاديث التي يتذرعون بها فحسبوا بما أوتوا من السعة في علم
الحديث أن هذه الكتب هي مصادر السنة النبوية؟! فقد -والله- وجدت ذلك واقعا بهم على
أفحش وضع وأبينه سقوطا حيث مخرقوا على العالم بحديث موضوع كذبه المحدثون ونفوه منذ
اللحظة الأولى لصدوره من آفكه!.
4- قوله:
"ولم يجهدوا مطلقا في أن يجعلوا الناس يصدقون بأن النبي قد ذكر فعلا اسم العالم
العراقي".
هذا قول مناقض
للحقيقة وللواقع تماما، حيث إن هذا الحديث قد استنكر هو وأضرابه غاية الاستنكار من
قبل العلماء كلهم ومن قبل العامة على حد سواء، حتى سقط راويه نفسه ولم يعد يسمع منه
أحد، وقد قال الحاكم في المدخل1، بعد أن أورد هذا الحديث: "ومثل هذه الأحاديث
يشهد من رزقه الله أدنى معرفة بأنها موضوعة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-".
(7)
فهل يصدق بعد
هذا من زعم أن الناس تلقوا الحديث بالقبول حتى إن الواضعين بزعمه الفاسد ورأيه الكاسد
"لم يجهدوا مطلقا في أن يجعلوا الناس يصدقونه"، أو أن الواقع هو عكس ذلك
وأن الأمة جميعها قد رفضت هذا الحديث رفضا باتا قاطعا منذ الوهلة الأولى لصدوره عن
مزوره كما رفضت سائر الأكاذيب وتبرات منها.
5- إن هذا الحديث
من أشهر الأحاديث الموضوعة، لكثرة ما نبه عليه العلماء في مختلف العصور في تصانيفهم
الحديثية المشتهرة المتداولة بين الخاصة والعامة من كتب الموضوعات وكتب مصطلح الحديث
وكتب الرجال:
1- ذكره ابن حبان
"354هـ" في كتابه الضعفاء وحذر منه كما ذكر الذهبي في الميزان.
2- وذكره الحاكم
"405هـ" في المدخل إلى كتاب الإكليل كما أوضحنا.
3- وذكره محمد
بن طاهر المقدسي "507هـ" في تذكرة الموضوعات: 144.
4- وذكره الإمام
عبد الرحمن بن الجوزي "597هـ" في الموضوعات الكبرى: 2: 47-49 وقال:
"حديث موضوع لعن الله واضعه".
- والذهبي
"748هـ" في ميزان الاعتدال كما سبق.
6- والحافظ ابن
حجر "852هـ" في لسان الميزان ج5ص8.
7- والسخاوي
"902هـ" في فتح المغيث: 114.
8و9- والسيوطي
"911هـ" في تدريب الراوي: 181، واللآلئ المصنوعة: 1: 457.
10- والحافظ ابن
عراق "963هـ" في تنزيه الشريعة: 2: 30.
11و12- والشيخ
علي القاري في شرح النخبة: 128، والموضوعات الكبرى: 76، وقال: "موضوع باتفاق المحدثين".
13- والشوكاني
في الفوائد المجموعة: 420.
14- والإبياري
في حاشيته نيل الأماني: 53.
15- والعلامة
حسين خاطر في لقط الدرر: 73.
هذه خمسة عشر
مرجعا في أعصر متتالية منذ عصر الراوي الوضاع حتى عصرنا هذا، وفي حقول الحديث المتنوعة:
حقل القواعد كالمدخل وتدريب الراوي، وحقل التطبيق الذي زعم الطاعن أنه يرجع إليه كالميزان
وغيره من كتب الرجال، وكتب الموضوعات مثل كتاب ابن الجوزي والسيوطي وابن عراق، كل المصادر
في شتى الحقول توضح كذب هذا الحديث وتفضح إفكه، وهي كلها بحمد الله مشهورة معروفة متداولة،
ثم يأتي بعد ذلك من يزعم أنه يدين المحدثين من حقل تطبيقهم بأنهم يسيرون الأحاديث الموضوعة
أو أنها تنطلي عليهم، على حين أنهم سيروا في الناس وأذاعوا في كل عصر ومصر في كل زمان
ومكان التحذير من الأحاديث الموضوعة والتنبيه عليها بما في ذلك هذا الحديث نفسه الذي
استشهد به الطاعه، حيث توالي المحدثون على التحذير منه في المصنفات المشهورة المتداولة
على مر العصور وكر الدهور. فهل لمنصف بعد ذلك أن يقبل شيئا من أمثال المستشرق، أو يعول
على دعوام التجرد والموضوعية..؟!
من مآخذنا على المستشرقين:
لقد أسفرت المناقشة
العلمية الموضوعية لمن انتقد المحدثين عن فشلهم في مطاعنهم التي وجهت إلى منهج المحدثين
النقدين بل إنها زادته قوة وثباتا، على حين كشفت أهداف الطاعنين وزيف بها رجم المصطنعة،
وكشفت اختلال منهجهم العلمي من وجوه كثيرة نلخص منها ههنا:
(8)
1- وضع النصوص
في غير موضعها، وتحميلها مالا تطيقه ألفاظها ولا يستمد من معانيها، على نحو ما سبق
أن ذكرنا في رواية "الأكابر عن الأصاغر".
2- اعتمادهم على
نصوص مفردة مقتطعة عما ورد في موضوعها مما يوضح المراد منها ويبينه، وذلك كثير في أبحاثهم.
ومنه استدلال تسيهر على أن تصنيف الحديث تأخر إلى القرن، الثالث بما ورد عن الإمام
أحمد أنه قال في سعيد بن أبي عروبة "156هـ": "هو أول من صنف الأبواب
بالبصرة ... لم يكن له كتاب إنما كان يحفظ" فاستدل بقوله: "لم يكن له كتاب"
على "أنه لم يؤلف كتابا". مع أن المحدثين يستعملون هذا في الدلالة على أن
المحدث حافظ متين الحفظ لا يعتمد على الكتاب في روايته للحديث. وهذا لا يدل على أن
المحدث لم يصنف كتابا من محفوظاته، وهو يصرح في أول كلمته بأنه صنف، والشواهد على ذلك
كثيرة في ترجمة سعيد من كتب الرجال.
3- أنهم يعولون
على مصادر ليست في مستوى البحث العلمي، مثل كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني، وهو
ليس كتابا علميا، ولا كتاب حديث، إنما يعتمد عليه في الأدب والفكاهات، ثم هو صاحب بدعة
تحمله على الطعن في أئمة الإسلام، ومع ذلك فلم يبال ناقد منهج المحدثين أن يستشهد به
في الحط من قدر إمام جليل، كالإمام مالك بن أنس.
4- أنهم يورودن
مقدمات جزئية ضعيفة ثم يبنون عليها نتائج ضخمة فضفاضة لا تناسب تلك المقدسات ولا تنتج
منها.
وتتخذ هنا حديث
الهروي المختلق في ذم الشافعي ومدح أبي حنيفة مثالا لذلك.
هذا الحديث زعم
الناقد أنه درج في الناس وغفل المحدثون عنه، بينما هو أشهر في بيان وضعه من نار على
علم. ولو فرضنا أن باحثا وجد حديثا ضعيفا جاز على بعض المحدثين فهل يدل ذلك على فشل
منهج النقد من أساسه؟ كلا! فإن القانون كثيرا ما يكون سليمان ثم تأتي الآفة من تصرف
بعض العاملين به أو من ذهوله. فهذا لو تحقق إنما يكون سهوا من المحدث الذي جاز عليه
الحديث، وأي علم في الدنيا لم يتعرض عالم من علمائه للنقد في بعض بحثه، ثم لم يكن ذلك
مسقطا لذلك العلم ولا لذلك العالم، إلا إذا كثر منه ذلك فإنه تكون أخطاؤه محسوبة عليه
تضعف الثقة به، ويبقى بنيان العلم شامخا.
5- اغفال الحقائق
التي تخالف استنتاجاتهنم وتبطلها. ومن ذلك أن جولد تسهير حكم بالوضع على الرواية الصحيحة:
"أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى ابن حزم أن يدون حديث رسول الله صلى الله عليه
وسلم". قال تسيهر: "إن هذا الخبر بعينه فيه نظر، فلم يرو عن مالك إلا في
رواية واحدة من روايت الموطأ هي رواية الشيباني، وقد تلقف هذا الخبر الواحد علماء الحديث
المتأخرون فكان منطلقا لهم، وروجوا له، وهذا الخب رليس إلا تعبيرا عن الرأي الحسن السائد
حول الخليفة الورع وحبه للسنة".
قال الأستاذ فؤاد
سيزكين يتعقب ذلك:
"ولكن لا
يجوز لنا أن نبادر فنزعم أن هذا الخبر الذي ورد في الموطأ برواية الشيباني تلميذ مالك
لا يعكس إلا حسن رأي المتأخرين "في عمر"، فليست كل روايات الموطأ بين أيدينا
فنحكم بعدم ورود هذا الخبر إلا في رواية واحدة، وفوق هذا فجولد تسيهر يعلم أن هذا الخبر
وارد كذلك في سنن الدارمي هذا وقد ذكره كل من ابن سعد والبخاري!! "اهـ.
على أنه لو سلم
لتسيهر دعواه أن التفرد بالشيء يبطله فإنه يؤدي إلى بطلان أمور كثيرة أتى بها في كتبه
وأبحاثه هي لباب مقاصده فيها، فهل يقبل أن ينسحب حكمه هذا عليه؟!.
6- يقول الأستاذ
فؤاد سيزكين: "هذا ونرى لزاما علينا أن ننبه إلى أن جولد تسيهر لم يدرس كتب علم
أصول الحديث دراسة شاملة رغم أنه عرف قسما منها كان ما يزال مخطوطا في ذلك الوقت. وفوق
هذا فيبدو لنا أنه لم ينظر رغم كثرة مصادره إلى بعض المعلومات في سياقها وفي ضوء ظروفها،
ويبدو لنا كذلك أنه لم يصب في فهم المواضع التي قد تعطي لأول وهلة دلالة تختلف عن معناها
الحقيقي اختلافا أساسيا".
ويقول سيزكين أيضا: "أن جولد تسيهر على تضلعه في اللغة
العربية قد أساء فهم بعض المعلومات الواردة في كتب الحديث وضرب بهذا منذ البداية في
اتجاه خاطئ".
(9)
ونحن لا نتعرض
لواقع الخطأ في فهم النصوص أو في الأخذ المقتطع للنص عما يكمله أو النقل المحرف، ولا
نود الخوض في أسباب ذلك ودوافعه، لكن نجد أنه لزاما علينا إزاء ذلك أن نصرح بأن هذا
الواقع يجعلنا عاجزين عجزا تاما كاملا عن الاعتماد على شيء من نظريات المستشرقين وأبحاثهم
هم وأتباعهم الذين يعتمدون عليهم.
ونسجل في النهاية
هذه النتائج العامة في هذا العلم العظيم:
1- أهمية الهدف
الجليل الذي نشأ من أجله علم مصطلح الحديث، أو علوم الحديث، وهو صيانة الحديث النبوي
الذي هو أعظم المصادر الإسلامية بعد كتاب الله.
2- أن الأمة الإسلامية
قد عنيت بتحقيق هذا الهدف منذ أول عهدها بالرواية كما أوضحه بحثنا عن الحديث في عصر
الصحابة3، وأهم قوانين الرواية التي اتبعوها.
3- أن قواعد علوم
الحديث، قواعد نقد شاملة تدرس جوانب الحديث كلها دراسة تامة دقيقة، وإن كانت في مصادر
هذا العلم مفرقة فيما يبدو.
4- أن قواعد علوم
الحديث ترتبط في مجموعها برباط وحدة الهدف ارتباطا يشكل منها نظرية نقدية ومنهجا علميا
كاملا، يقوم على أساس بدهي مسلم به تتفرع عنه أصول البحث النقدي.
وإذا كان السابقون
لم يقوموا بمثل تلك الصياغة في تآليفهم فإن تعليقاتهم على فوائد كل نوع من هذا العلم
وعلى قواعد التي أوضحناها في مواطنها توضح تلعقهم بها ووضوح أساساها لديهم، وقد جاء
كتابنا هذا يعبر عن هذا المنهج النقدي المتكامل تعبيرا نرجو أن يكون قويا واضحا موفقا
بفضله.
5- أن جهود المحدثين
في حقل تطبيق هذا المنهج النقدي العظيم قد بلغت الغاية في الوصول إلى الهدف المنشود،
وهذه تصانيفهم الكثيرة في أنواع الحديث، ما اختص منها بالصحيح، وما جمع إليه الضعيف،
أو اختص بالموضوع، أو بنوع مستقل من علوم الحديث الأخرى كالمرسل والمدرج ... هذه التصانيف
برهان عملي على مدى ما بلغوه من العناية في تطبيق هذا المنهج حتى أدوا إلينا تراث النبوة
صافيا نقيا.
ولقد كان حقا
ما شهد به العلماء من تحقيق هذا الغرض العظيم. فقال عبد الله بن المبارك حين سئل: هذه
الأحاديث الموضوعة؟ فقال: "تعيش لها الجهابذة، إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون"..
وكان حقا ما قال
ابن خزيمة: "ما دام أبو حامد بن الشرقي في الأحياء لا يتهيأ لأحد أن يكذب على
رسول الله صلى الله عليه وسلم". وقال أيضا: "حياة أبي حامد بن الشرقي تحجب
بين الناس وبين الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم".
وقال الدارقطني:
"يا ال بغداد لا تظنوا أن أحدا يقدر يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا
حي".
ورحم الله الإمام
الثوري حيث قال: "الملائكة حراس السماء، وأصحاب الحديث حراس الأرض".
أجل والله، ولنعم
الحراس الأمناء كانوا، تحقق بهم الوعد الآلهي بحفظ هذه الملة، وجرت على أيديهم هذه
المكرمة التي اختص الله تبارك وتعالى بها هذه الأمة. رضي الله عنهم وأجزل مثوبتهم،
وسلك بنا من محض فضله سبيلهم.
(1)
منهج النقد في علوم الحديث: نور الدين محمد عتر الحلبي - دار الفكر دمشق-
سورية – ط3 - 1418هـ -1997م – ص : 459 – 485.
(10)
موازين البحث عند المُسْتَشْرِقِينَ
(1) :
يعتمد جمهرة المُسْتَشْرِقِينَ في تحرير أبحاثهم
عن الشريعة الإسلامية على ميزان غريب بالغ الغرابة في ميدان البحث العِلْمِيّ، فمن
المعروف أنَّ العالم المخلص يتجرَّد عن كل هوى وميل شخصي فيما يريد البحث عنه ويتابع
النصوص والمراجع الموثوق بها، فما أدت إليه بعد المقارنة والتمحيص كان هو النتيجة المحتمة
التي ينبغي عليه اعتقادها. ولكن أغلب هؤلاء المُسْتَشْرِقِينَ يضعون في أذهانهم - كما
قلت من قَبْلُ - فكرة معيَّنة يريدون تَصَيُّدَ الأدلَّة لإثباتها، وحين يبحثون عن
هذه الأدلَّة لا تهمهم صِحَّتُهَا بمقدار ما يهمهم إمكان الاستفادة منها لدعم آرائهم
الشخصية، وكثيراً ما يستنبطون الأمر الكلي من حادثة جزئية، ومن هنا يقعون في مفارقات
عجيبة لولا الهوى والغرض لربأوا بأنفسهم عنها، وسنضرب لذلك بعض الأمثلة:
1 - في محاولة المستشرق جولدتسيهر لإثبات زعمه بأنَّ الحديث
في مجموعه من صنع القرون الثلاثة الأولى للهجرة وليس من قول الرسول - صَلََّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ادَّعَى أنَّ أحكام الشريعة لم تكن معروفة لجمهور المسلمين في
الصدر الأول من الإسلام، وأنَّ الجهل بها وبتاريخ الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - كان لاصقاً بكبار الأئمة، وقد حشد لذلك بعض الروايات الساقطة المتهافتة،
من ذلك ما نقله من كتاب " الحيوان " للدميري من أنَّ أبا حنيفة - رَحِمَهُ
اللهُ - لم يكن يعرف هل كانت معركة بدر قبل أُحُدْ أم كانت أُحُدْ قبلها!.
ولا شك في أنَّ أقل الناس اطلاعاً على التاريخ
يَرُدُّ مثل هذه الرواية، فأبو حنيفة وهو من أشهر أئمة الإسلام الذين تَحَدَّثُوا عن
أحكام الحرب في الإسلام حديثاً مستفيضاً في فقهه الذي أُثِرَ عنه، وفي كُتُبِ تلامذته
الذين نشروا علمه كأبي يوسف ومحمد، يستحيل على العقل أنْ يُصَدِّقَ بأنه كان جاهلاً
بوقائع سيرة الرسول ومغازيه وهي التي اسْتَمَدَّ منها فقهه في أحكام الحرب، وحسبنا
أنْ نذكر هنا كتابين في فقهه في هذا الموضوع يعتبران من أهم الكتب المؤلفة في التشريع
الدولي، في الإسلام.
أولهما - كتاب " الرد على سير (1) الأوزاعي
" لأبي يوسف - رَحِمَهُ اللهُ -.
ثانيهما - كتاب " السير الكبير " لمحمد
- رَحِمَهُ اللهُ -، وقد شرحه السَرَخْسِي، وهو من أقدم وأَهَمِّ مراجع الفقه الإسلامي
في العلاقات الدولية، وقد طبع أخيراً تحت إشراف جامعة الدول العربية برغبة من جمعية
محمد بن الحسن الشيباني للحقوق الدولية.
وفي هذين الكتابين يتضح إلمام تلامذة الإمام
وَهُمْ حاملو علمه بتاريخ المعارك الإسلامية في عهد الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - وعهد خلفائه الراشدين.
وجولدتسيهر لا يخفى عليه أمر هذين
الكتابين، وكان بإمكانه لو أراد الحَقَّ أنْ يعرف ما إذا كان أبو حنيفة جاهلاً بالسيرة
أو عالماً بها من غير أنْ يلجأ إلى رواية «الدميري» في " الحيوان " هو ليس
مؤرِّخاً وكتابه ليس كتاب فقه ولا تاريخ، وإنما يحشر فيه كل ما يرى إيراده من حكايات
ونوادر تتصل بموضوع كتابه من غير أنْ يعني نفسه البحث عن صحتها، ولا يخفى ما كان بين
أبي حنيفة ومعاصريه ومُقَلِّدِيهِمْ من بعدهم من عداء منهجي فكري،
(1)
وقد كان هذا العداء مادة دسمة لرُواة الأخبار
ومؤلفي كتب الحكايات والنوادر لنسبة حوادث وحكايات منها ما يرفع من شأن أبي حنيفة،
ومنها ما يضع من سُمعته. وأكثرها مُلَفَّقٌ موضوع للمُسَامَرَةِ والتندُّر من قِبَلِ
مُحِبِّيهِ أو كارهيه على السواء، مِمَّا يجعلها عديمة القيمة العلمية في نظر العلماء
والباحثين.
فجولدتسيهر أعرض عن كل ما دُوّن من تاريخ أبي
حنيفة تدويناً علميّاً ثابتاً، واعتمد رواية مكذوبة لا يتمالك طالب العلم المبتدئ في
الدراسة من الضحك لسماعها ليدعم بذلك ما تخيله من أنَّ السنّة النبوية من صنع المسلمين
في القرون الثلاثة الأولى.
2 - ومثال آخر عن هذا المستشرق أيضاً، فقد أعرض عَمَّا أجمعت
عليه كتب الجرح والتعديل وكتب التاريخ من صدق الإمام محمد بن مسلم بن شهاب الزُهري
- رَحِمَهُ اللهُ - (50 - 124 هـ) وَوَرَعِهِ وأمانته ودينه، وزعم أنَّ الزهري لم يكن
كذلك بل كان يضع الحديث للأمويِّين، وهو الذي وضع الحديث: «لاَ تُشَدُّ الرِّحَالُ
إِلاَّ إِلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ»
إلخ ... لعبد الملك بن مروان، وكان حُجَّتُهُ أنَّ هذا الحديث من
رواية الزُّهْرِي، وأنَّ الزُّهْرِي كان معاصراً لعبد الملك بن مروان! ... وقد ناقشت هذا الزعم مناقشة مفصلة في كتابي
" السُنَُّّة ومكانتها في التشريع الإسلامي": ص 385 وما بعدها.
3 - يحاول المُسْتَشْرِقُونَ أنْ يؤكدوا تعالي العرب الفاتحين
عن المسلمين الأعاجم وانتقاصهم من مكانتهم، وفي ذلك يقول المستشرق «بروكلمان» في كتابه
" تاريخ الشعوب الإسلامية ": «وإذا كان العرب يؤلفون طبقة الحاكمين، فقد
كان الأعاجم من الجهة الثانية هم الرعيَّة أي القطيع! ... وَجَمْعُهَا رَعَايَا كما يدعوهم تشبيه سَامِيٌّ قديم كان
مألوفاً حتى عند الآشُورِيِّينَ».
فهذا المستشرق قد أعرض عن جميع الوثائق التاريخية
التي تؤكد عدالة الفاتحين المسلمين ومعاملتهم أفراد الشعب على السواء في غير تفرقة
بين عربي وغيره، وتعلق بلفظ «الرعية» تعلقاً لغويّاً واستنتج منها أنَّ المسلمين نظروا
إلى الأعاجم نظر القطيع من الغنم، ولو رجعنا إلى مادة «رَعَيَ» في قواميس اللغة وجدناها
تقول كما في " القاموس المحيط ": «كُلُّ [مَنْ] وَلِيَ أمْرَ قَوْمٍ ... والقَوْمُ رَعِيَّةٌ ... ، وَرَاعَيْتُه: لاحَظْتُه مُحْسِناً إِلَيْهِ
... ، وَرَاَعْيُت أمْرَهُ: حَفِظَتُهُ، كَرَعَاهُ».
فالراعي في اللغة يطلق على راعي الغنم، وعلى رئيس القوم وَوَلِيِّ أمرهم، والرعية تطلق
على الماشية، وتطلق على القوم، ومن معاني الرعاية: الحفظ والإحسان. فلما أطلقها الإسلام
على القوم لم يخص بها الأعاجم ليشير إلى أنه يراهم كالقطيع من الغنم، وإنما أطلقها
على الشعب عَامَّةً، والأحاديث في ذلك كثيرة معروفة ومنها قوله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري وغيره: «أَلاَ كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ
مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالإِمَامُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْؤُولٌ
عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ، وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ
رَعِيَّتِهِ، وَالمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى أَهْلِ بَيْتِ زَوْجِهَا، وَوَلَدِهِ وَهِيَ
مَسْؤُولَةٌ عَنْهُمْ، وَعَبْدُ الرَّجُلِ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْؤُولٌ
عَنْهُ، أَلاَ فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ». قال الحافظ
ابن حجر (" فتح الباري ": 13/ 96) في شرح هذا الحديث: «وَالرَّاعِي هُوَ
الْحَافِظُ الْمُؤْتَمَنُ الْمُلْتَزِمُ صَلاَحَ مَا اؤْتُمِنَ عَلَى حِفْظِهِ فَهُوَ
مَطْلُوبٌ بِالْعَدْلِ فِيهِ وَالْقِيَامِ بِمَصَالِحِهِ».
وقد جاء في حديث آخر إطلاق الرعية
على المسلمين في الحديث الذي رواه البخاري وغيره: «مَا مِنْ وَالٍ يَلِي رَعِيَّةً
مِنَ المُسْلِمِينَ، فَيَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لَهُمْ، إِلاَّ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ
الجَنَّةَ».
(2)
فكيف أغمض بروكلمان عينيه عن هذا كله واستجاز
لعلمه أنْ يَدَّعِي بأنَّ المسلمين نظروا إلى الأعاجم نظرة القطيع وأنهم أطلقوا عليهم
وحدهم لفظ «الرَعِيَّةِ»؟ ليس له سند إلاَّ أنَّ لفظ الرَعِيَّةِ يطلق على الغنم أيضاً،
وقد علمت معانيها اللغوية، أمَّا تخصيص إطلاقها بالأعاجم فليس له سند ولا شُبْهَة يتعلق
بها، وإنما هو الهوى والغرض.
4 - زعم المستشرق «مايور» كما نقله عنه «مرجليوث» أنَّ أهل البدو
كانوا كثيري الاهتمام بتعلم البلاغة وطلاقة اللسان فلا يبعد أن النبي - عَلَيْهِ الصَلاَةُ
وَالسَّلاَمُ - مارس هذا الفن حتى نبغ فيه.
وهذا يعطينا صورة عن موازين البحث عند هؤلاء،
فالمسألة عنده تقوم على استنتاج وَهْمِيٍّ من أمر لم يقع، فلا العرب كانوا يتعلَّمون
البلاغة، ولا كانت لهم مدارس وأساتذة يضعون قواعدها، ولا النَّبِيُّ - صَلََّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عُرِفَ عنه قبل النبوة فعل ذلك، وليس بين أيدينا نص واحد يثبته
بل إنَّ المؤكد أنَّ الرسول لم ينقل عنه أثر من نثر أو شعر قبل النبوة وقبل أنْ يتنزَّل
عليه القرآن الكريم.
وأمر آخر يكشف لنا عن أساس ثالث من أسس النقد
والبحث عند هؤلاء المُسْتَشْرِقِينَ هو إفراطهم في اختراع العلل والأسباب والحوادث
التي يدرسونها اختراعاً ليس له سند إلاَّ التخيل والتحكم، ويزيد في فساد أسلوبهم هذا
أنهم يتخيَّلون أحداث الشرق والعرب وعاداتهم وأخلاقهم بأوهامهم وخيالاتهم الغريبة عن
الشرق والعرب والمسلمين، ولا يريدون أنْ يعترفوا بأنَّ لكل بيئة مقاييسُها وأذواقها
وعاداتها.
وقد أحسن المستشرق الفرنسي المسلم «ناصر الدين
دينيه» في حديثه عن أسلوب المُسْتَشْرِقِينَ وموازينهم في الحكم على الأشياء مِمَّا
جعلهم يتناقضون فيما بينهم تناقضاً واضحاً في الحكم على شيء واحد، كل ذلك لأنهم حاولوا
أنْ يُحَلِّلُوا السيرة المحمدية وتاريخ ظهور الإسلام بحسب العقلية الأوربية فَضلُّوا
بذلك ضلالاً بعيداً لأنَّ هذا غير هذا، ولأنَّ المنطق الأوروبي لا يمكن أنْ يأتي بنتائج
صحيحة في تاريخ الأنبياء الشرقيين. ثم قال: إنَّ هؤلاء المُسْتَشْرِقِينَ الذين حاولوا
نقد سيرة النبي بهذا الأسلوب الأوروبي البحت لبثوا ثلاثة أرباع قرن يُدَقِّقُونَ وَيُمَحِّصُونَ
بزعمهم، حتى يهدموا ما اتفق عليه الجمهور من المسلمين من سيرة نبيِّهم، وكان ينبغي
لهم بعد هذه التدقيقات الطويلة العريضة العميقة أنْ يَتَمَكَّنُوا من هدم الآراء المُقَرَّرَةِ
والروايات المشهورة من السيرة النبوية، فهل تَسَنَّى لهم شَيْءٌ من ذلك؟
الجواب، أنهم لم يتمكَّنوا من إثبات أقل شَيْءٍ
جديدٍ، بل إذا أَمْعَنَّا النظر في الآراء الجديدة التي أتى بها هؤلاء المُسْتَشْرِقُونَ،
من فرنسيِّين وإنجليز وألمان وبلجيكيِّين وهولانديِّين ... إلخ لا نجد إلاَّ خلطاً وخبطاً، وإنك لترى كل واحد منهم
يُقَرِّرُ ما نقضه غيره من هؤلاء المُدَقِّقين بزعمهم، أو ينقض ما قرَّرهُ.
ثم أخذ «دينيه» يُورِدُ الأمثال على هذه المتناقضات
وختم كلامه بقوله:
وإنْ أردنا استقصاء هذه التناقضات
التي نجدها بين تمحيصات هؤلاء المُمَحِّصِينَ بزعمهم يطول بنا الأمر، ولا نقدر أنْ
نعرف أية حقيقة، ولا يبقى أمامنا إلاَّ أنْ نرجع إلى السيرة النبوية التي كتبها العرب،
فأمَّا المؤلفون الذين زعموا أنهم يريدون ترجمة محمد بصورة علميَّة شديدة التدقيق فلم
يتَّفقُوا منها ولو على نقطة مُهِمَّةٍ، وبرغم جميع ما نقبوه ونقروه، وحاولوا كشفه
بزعمهم، فلم يصلوا ولن يصلوا إلاَّ إلى تمثيل أشخاص في تلك السيرة ليسوا أعرق في الحقيقة
الواقعية من أبطال أقاصيص «فالتر سكوت» و «إسكندر دوماس»، فهؤلاء القصاص تخيَّلُوا
أشخاصاً من أبناء جنسهم يقدرون أنْ يفهموهم، ولم يلحظوا إلاَّ اختلاف الأدوار بينهم،
أما أولئك المُسْتَشْرِقُونَ فَنَسُوا أنه كان عليهم قبل كل شَيْءٍ أنْ يَسُدُّوا الهُوَّةَ
السحيقة التي تفصل بين عقليتهم الغربية والأشخاص الشرقيِّين الذين يترجمونهم، وأنهم
بدون هذه الملاحظة جديرون بأنْ يقعُوا في الوهم في كل نقطة (1).
(3)
مع المُسْتَشْرِقِينَ وَجْهاً لِوَجْهٍ في أوروبا:
لقد كنتُ كتبتُ عن المُسْتَشْرِقِينَ كلمة موجزة
في كتابي " السُنَّة ومكانتها في التشريع الإسلامي " قبل أنْ أزور أكثر جامعات
أوروبا عام 1956 م وأختلط بهم وأتحدَّثَ إليهم وأناقشهم. فلما تَمَّ لي ذلك ازْدَدْتُ
إيماناً بما كتبته عنهم واقتناعاً بخطرهم على تراثنا الإسلامي كله سواء كان تشريعياً
أم حضارياً، لما يملأ نفوسهم من تعصُّبٍ ضد الإسلام والعرب والمسلمين.
كان أول من اجتمعت بهم هو البروفسور
«أندرسون» رئيس قسم قوانين الأحوال الشخصية المعمول بها في العالم الإسلامي - في معهد
الدراسات الشرقية في جامعة لندن - وهو متخرج من كلية اللاهوت في جامعة كمبردج، وكان
من أركان حرب الجيش البريطاني في مصر خلال الحرب العالمية الثانية - كما حَدَّثَنِي
هو بذلك عن نفسه - تعلم اللغة العربية من دروس اللغة العربية التي كان يلقيها بعض علماء
الأزهر في الجامعة الأميركية في القاهرة ساعة في كل أسبوع لمدة سَنَةٍ واحدة. كما تعلم
العامية المصرية من اختلاطه بالشعب المصري حين توليه عمله العسكري الآنف الذكر، وَتَخَصَّصَ
في دراسة الإسلام من المحاضرات العامة التي كان يلقيها المرحوم «أحمد أمين» والدكتور
«طه حسين» والمرحوم الشيخ «أحمد إبراهيم». ثم انتقل من الخدمة العسكرية بعد الحرب إلى
رئاسة قسم قوانين الأحوال الشخصية في جامعة «لندن» كما ذكرنا!. لا أريد أنْ أذكر أمثلة
عن تعصبه ضد الإسلام - وقد حَدَّثَنِي كثيراً عن ذلك المرحوم الدكتور «حمود غرابة»
مدير المركز الثقافي الإسلامي في لندن حينذاك - ولكني أكتفي بأنْ أذكر ما حَدَّثَنِي
به البروفسور «أندرسون» نفسه من أنه أسقط أحد المُتَخَرِّجِينَ من الأزهر الذين أرادوا
نوال شهادة الدكتوراه في التشريع الإسلامي من جامعة لندن لسبب واحد هو أنه قدم أطروحته
عن حقوق المرأة في الإسلام وقد برهن فيها على أنَّ الإسلام أعطى المرأة حقوقها الكاملة،
فعجبت من ذلك وسألت هذا المستشرق: «وكيف أسقطته ومنعته من نوال الدكتوراه لهذا السبب
وأنتم تدّعون حرية الفكر في جامعاتكم؟»، قال: «لأنه كان يقول: الإسلام يمنح المرأة
كذا، والإسلام قَرَّرَ للمرأة كذا، فهل هو ناطق رسمي باسم الإسلام؟ هل هو أبو حنيفة
أو الشافعي حتى يقول هذا الكلام ويتكلم باسم الإسلام؟ إن آراءه في حقوق المرأة لم يَنُصَّ
عليها فقهاء الإسلام الأقدمون، فهذا رجل مغرور بنفسه حين ادّعى أنه يفهم الإسلام أكثر
مِمَّا فهمه أبو حنيفة والشافعي». هذا هو كلام هذا المستشرق الذي لا يزال حيّاً يرزق،
ولا أدري إنْ كان لا يزال في عمله في جامعة لندن أم أُحِيلَ إلى التقاعد (المعاش).
وَزُرْتُ جامعة أدنبره «اسكتلنده» فكان المستشرق الذي يرأس الدراسات الإسلامية فيها
قِسِّيساً بلباس مدني، وقد وضع لقبه الديني مع اسمه على باب بيته. وفي جامعة «جلاسكو»
(اسكتلنده أيضاً) كان رئيس الدراسات العربية فيها قِسِّيساً عاش رئيساً للإرسالية التبشيرية
في القدس قرابة عشرين سَنَةً حتى أصبح يتكلم العربية كأهلها، وقد حَدَّثَنِي بذلك عن
نفسه في هذه الزيارة، وكنت قد اجتمعت به قبل ذلك في المؤتمر الإسلامي المسيحي الذي
انعقد في «بحمدون» (لبنان) عام 1954 م. وفي جامعة أكسفورد وجدنا رئيس قسم الدراسات
الإسلامية والعربية فيها يهوديّاً يتكلم العربية ببطء وصعوبة، وكان أيضاً يعمل في دائرة
الاستخبارات البريطانية في ليبيا خلال الحرب العالمية الثانية وهناك تعلم العربية العامية،
ثم عاد إلى بلاده إنجلترا ليرأس هذا القسم في جامعة أكسفورد. ومن عجيب أني رأيت في
منهاج دراساته التي يلقيها على طلاب الاستشراق: تفسير آيات من القرآن الكريم من
" الكشاف " للزمخشري - وهو لا يحسن فهم عبارة بسيطة في جريدة عادية - ودراسة
أحاديث من " البخاري " و " مسلم "، وأبواب من الفقه في أمهات كتب
الحنفية والحنابلة، وسألته عن مراجع هذه الدراسات، فأخبرني أنها من كتب المُسْتَشْرِقِينَ
أمثال: جولدتسيهر، ومرجليوث، وشاخت، وحسبك بهؤلاء عنواناً على الدراسات المدخولة المدسوسة
المُوَجَّهَةِ ضد الإسلام والمسلمين.
(4)
أما في جامعة كمبردج فكانت رئاسة قسم الدراسات
العربية والإسلامية فيها للمستشرق المعروف «آربري» واختصاصه في اللغة العربية فحسب.
وقد ورد اسمه آنفاً. وقد قال لي - خلال أحاديثي معه -: «بأننا - نحن المُسْتَشْرِقِينَ،
نقع في أخطاء كثيرة في بحوثنا عن الإسلام، ومن الواجب أنْ لا نخوض في هذا الميدان لأنكم
- أنتم المسلمين العرب - أقدر منا على الخوض في هذه الأبحاث»، وربما قال هذا مجاملة
أو اعتقاداً منه بِصِحَّتِهِ. وفي مانشستر (إنكلترا) اجتمعت بالبروفسور «روبسون» وكان
يقابل " سنن أبي داود " على نسخة مخطوطة، وله كتابات في تاريخ الحديث، يتفق
فيها غالباً مع آراء المُسْتَشْرِقِينَ المتحاملين، وقد حرصت على أنْ أُبَيِّنَ له
أنَّ الدراسات الاستشراقية السابقة فيها تحامل وبُعْدٌ عن الحقيقة، وَتَعَرَّضْتُ لآراء
جولدتسيهر وأثبتُّ له أخطاءه التَارِيخِيَّةِ وَالعِلْمِيَّةِ، فكان مِمَّا أجاب به
عنه: «لا شك أنَّ المُسْتَشْرِقِينَ في هذا العصر أكثر اطِّلاَعاً على المصادر الإسلامية
من جولدتسيهر نظراً لما طبع ونشر وعرف من مؤلفات إسلامية كانت غير معلومة في عصر جولدتسيهر»،
فقلت له: «أرجو أنْ تكون أبحاثكم - المُسْتَشْرِقِينَ - في هذا العصر أقرب إلى الحق
والإنصاف من جولدتسيهر، ومرجليوث، وأمثالهما». فقال: «أرجو ذلك». وفي جامعة "ليدن"
بهولندا اجتمعت بالمستشرق الألماني اليهودي " شاخت " وهو الذي يحمل في عصرنا
هذا رسالة جولدتسيهر في الدَسِّ على الإسلام والكيد له وتشويه حقائقه، وَبَاحَثْتُهُ
طويلاً في أخطاء جولدتسيهر وَتَعَمُّدِهِ تحريف النصوص التي ينقلها عن كتبنا، فأنكر
ذلك أول الأمر، فضربت له مثلاً واحداً مِمَّا كتبه جولدتسيهر في تاريخ «السُنَّة»،
فاستغرب ذلك، ثم راجع كتاب جولدتسيهر - وكنا نجلس في مكتبته الخاصة - فقال: «معك الحق،
إِنَّ جولدتسيهر أخطأ هنا»، قلت له: «هل هو مجرد خطأ؟» فاحتد وقال: «لماذا تسيئون به
الظن؟» فانتقلت إلى بحث تحليله لموقف الزُّهْرِيِّ من عبد الملك بن مروان، وذكرت له
من الحقائق التاريخية ما ينفي ما يزعمه جولدتسيهر. وبعد مناقشة في هذا الموضوع قال:
«وهذا خطأ أيضاً في جولدتسيهر، ألا يخطئ العلماء؟» قلت له: «إنَّ جولدتسيهر هو مؤسس
المدرسة الاستشراقية التي تَبْنِي حُكْمَهَا في التشريع الإسلامي على وقائع التاريخ
نفسه، فلماذا لم يستعمل مبدأهُ هنا حين تكلم عن الزهري؟ وكيف جاز له أنْ يحكم على الزُّهْرِيِّ
بأنه وضع حديث فضل المسجد الأقصى إرضاء لعبد الملك ضد ابن الزبير؟ مع أَنَّ الزُّهْرِيَّ
لم يلق عبد الملك إِلاَّ بعد سنوات من مقتل ابن الزبير؟» وهنا اصفر وجه " شاخت
" وأخذ يفرك يداً بيد، وَبَدَا عليه الغيظ والاضطراب، فأنهيت الحديث معه بِأَنْ
قلت له: «لقد كان مثل هذه " الأخطاء " كما تُسَمِّيهَا أنت، تشتهر في القرن
الماضي، ويتناقلها مستشرق منكم عن آخر على أنها حقائق علمية، قبل أنْ نقرأ - نحن المسلمين
- تلك المؤلفات إلاَّ بعد موت مؤلفيها، أما الآن فأرجو أنْ تسمعوا منا ملاحظاتنا على
أخطائكم لِتُصَحِّحُوهَا في حياتكم قبل أنْ تتقرر كحقائق علمية».
ومن الملاحظ أنَّ هذا المستشرق كان يدرس في جامعة
القاهرة - فؤاد سابقاً - وله مؤلف في تاريخ التشريع الإسلامي كله دَسٌّ وتحريف على
أسلوب شيخه جولدتسيهر!.
وفي جامعة «أبسلا» في السويد التقيت
بالشيخ المستشرق " نيبرج " وهو الذي كان قد أشرف على تصحيح كتاب " الانتصار
" لابن الخياط - على ما أظن - وطبعته قديماً لجنة التأليف والترجمة في القاهرة
وجرى بيني وبينه حديث طويل كان أكثره حول أبحاث المُسْتَشْرِقِينَ ومؤلفاتهم عن الإسلام
وتاريخه، وجعلت جولدتسيهر محور الحديث عن المُسْتَشْرِقِينَ، وذكرت له أمثلة من أخطائه
وتحريفه للحقائق، فكان مِمَّا قاله بعد ذلك: «إن جولدتسيهر كان في القرن الماضي ذا
شهرة علمية ومرجعاً للمستشرقين، أما في هذا العصر - بعد انتشار الكتب المطبوعة في بلادكم
عن العلوم الإسلامية - فلم يعد جولدتسيهر مرجعاً كما كان في القرن الماضي. .
(5)
لقد
مضى عهد جولدتسيهر في رأينا!. .» وقد أتيح لي خلال تلك الرحلة أنْ أواصل زيارة الجامعات
عدا ما ذكرته منها في عواصم كل من (بلجيكا) و (الدانيمرك) و (النرويج) و (فنلندا) و
(ألمانيا) و (سويسرا) و (باريس) واجتمعتُ بمن كان موجوداً فيها حينئذ من المُسْتَشْرِقِينَ.
وَمِمَّا ذكرته آنفاً وما دَوَّنْتُهُ في مذكراتي عن المُسْتَشْرِقِينَ الذين لقيتهم
خلال تلك الرحلة اتَّضَحَتْ لي الحقائق التالية:
أولاً: أنَّ المُسْتَشْرِقِينَ - في جمهورهم - لا يخلو
أحدهم من أنْ يكون قِسِّيساً أو استعماريّاً أو يهوديّاً، وقد يشذ عن ذلك أفراد.
ثانياً: أنَّ الاستشراق في الدول الغربية غير الاستعمارية
- كالدول السكندنافية - أضعف منه عند الدول الاستعمارية.
ثالثاً: أنَّ المُسْتَشْرِقِينَ المعاصرين في الدول
غير الاستعمارية يَتَخَلَّوْنَ عن جولدتسيهر وأمثاله المفضوحين في تعصبهم.
رابعاً: أنَّ الاستشراق بصورة عامة ينبعث من الكنيسة،
وفي الدول الاستعمارية يسير مع الكنيسة ووزارة الخارجية جنباً إلى جنب، يلقى منهما
كل تأييد.
خامساً: أنَّ الدول الاستعمارية كبريطانيا وفرنسا ما
تزال حريصة على توجيه الاستشراق وجهته التقليدية من كونه أداة هدم للإسلام وتشويه لسمعة
المسلمين.
ففي فرنسا لا يزال " بلا شير " و
" ماسينيون " وهما شَيْخَا المُسْتَشْرِقِينَ الفرنسيين في وقتنا الحاضر
يعملان في وزارة الخارجية الفرنسية كخيبرين في شؤون العرب والمسلمين. وفي إنجلترا رأينا
- كما ذكرت - أنَّ الاستشراق له مكان محترم في جامعات لندن وأكسفورد وكمبردج وأدنبره
وجلاسكو وغيرها، ويشرف عليه يهود وإنجليز استعماريون وَمُبَشِّرُونَ،
وهم يحرصون على أنْ تَظَلَّ مؤلفات جولدتسيهر
ومرجليوث ثم شاخت من بعدهما، هي المراجع الأصلية لطلاب الاستشراق من الغَرْبِيِّينَ،
وللراغبين في حمل شهادة الدكتوراه عندهم من العرب والمسلمين، وهم لا يوافقون أبداً
على رسالة لطلب الدكتوراه يكون موضوعها إنصاف الإسلام وكشف دسائس أولئك المُسْتَشْرِقِينَ.
وقد حَدَّثَنَا الدكتور أمين المصري - وهو خِرِّيجُ
كلية أصول الدين في الأزهر وكلية الآداب ومعهد التربية في جامعة القاهرة - عما لقيه
من عناء في سبيل موضوع رسالته التي أراد أنْ يتقدم بها لأخذ شهادة الدكتوراه في الفلسفة
من جامعات إنجلترا.
لقد ذهب إليها منذ بضع سنوات لدراسة الفلسفة
وأخذ شهادة الدكتوراه بها، وما كان يطلع على برامج الدراسة - وخاصة دراسة العلوم الإسلامية
فيها - حتى هاله ما رآه من تَحَامُلٍ وَدَسٍّ في كتب المُسْتَشْرِقِينَ، وخاصة
" شاخت " فقرر أنْ يكون موضوع رسالته هو نقد كتاب شاخت في تاريخ الفقه الإسلامي.
وتقدم إلى البروفسور أندرسون ليكون
مُشْرِفاً على تحضير هذه الرسالة وموافقاً على موضوعها، فأبى عليه هذا المستشرق أنْ
يكون موضوع رسالته نقد كتاب شاخت وَعَبَثاً حاول أنْ يوافق على ذلك، فلما يئس من جامعة
لندن، ذهب إلى جامعة كامبردج وانتسب إليها، وتقدم إلى المشرفين على الدراسات الإسلامية
فيها برغبته في أنْ يكون موضوع رسالته للدكتوراه هو ما ذكرناه، فلم يُبْدُوا رضاهم
عن ذلك، وظن أنَّ من المُمْكِنِ موافقتهم أخيراً، ولكنهم، قالوا له بصريح العبارة:
إذا أردت أنْ تنجح في الدكتوراه فَتَجَنَّبْ انتقاد شاخت، فإنَّ الجامعة لن تسمح لك
بذلك، وعندئذ حَوَّلَ موضوع رسالته إلى " معايير نقد الحديث عند المحدثين"
فوافقوه، ونجح في نوال الدكتوراه - وهو الآن أستاذ في كلية الشريعة بجامعة دمشق.
(6)
هذه كلمة موجزة عما تَحَقَّقْتُهُ بنفسي عن المُسْتَشْرِقِينَ،
وخاصة كتب جولدتسيهر وآرائه، وقد أفردت لمناقشته فصلاً خاصّاً في كتابي " السُنَّة
ومكانتها في التشريع الإسلامي"، بَيَّنْتُ فيه تحامل هذا المستشرق اليهودي، وتشويهه
للحقائق، وتحريفه للنصوص، وتأويله للوقائع التاريخية وِفْقَ هدفه الذي سعى إليه، واعتماده
على مصادر لا قيمة لها في نظر العلم، وتكذيبه للمصادر العلمية المعترف بها عند أئمتنا
وعلمائنا المحققين.
أما في أمريكا فالاستشراق فيها الآن يمثل ذروة
العداء للإسلام والمسلمين، ويشرف على الدراسات الإسلامية في جامعاتها أشد أعداء الإسلام
تعصباً وحقداً كما يتضح من أسماء أخطر المُسْتَشْرِقِينَ ومؤلفاتهم التي ذكرناها قبل
قليل.
ومن المؤلم أَنَّ طلاب العالم الإسلامي الذين
يدرسون باللغة الإنجليزية في بلادهم لا يزالون مُضَطَرِّينَ إلى دخول الجامعات الإنجليزية
والأمريكية، فلا يجد طلاب الدراسات الإسلامية أمامهم مراجع لدراستهم التي ينالون بها
الدكتوراه غير تلك المراجع المسمومة، وهم لا يعرفون اللغة العربية، فَتَتَقَرَّرُ عندهم
أَنَّ تلك الدسائس حقائق مأخوذة من كتب الفقهاء والعلماء المسلمين أنفسهم.
إنَّ هذا مِمَّا يدعو جامعاتنا العربية للتفكير
في إنشاء أقسام لفروع شهادة الدكتوراه باللغة الإنجليزية، وأعتقد أنَّ ذلك من شأنه
أَنْ يُحَوِّلَ أنظار كثيرين من طلاب العالم الإسلامي عن جامعات الغرب إلى بلادنا العربية
- فَنَصُونَ هؤلاء من التأثر بدسائس المُسْتَشْرِقِينَ المتعصبين الاستعماريين.
(1)
الاستشراق والمُسْتَشْرِقُونَ ما لهم وما عليهم : مصطفى بن
حسني السباعي (ت: 1384هـ) - دار الوراق للنشر والتوزيع - المكتب الإسلامي.
(7)
تعليقات
إرسال تعليق
علق هنا...