الدفوع في دعوى النسب
إعداد: أ.معتز منتصر خطيب السرطاوي
ملاحظة هامة : لا مانع من نسخ أي جزء من البحث بشرط ذكر المؤلف وعنوان البحث ضمن المراجع وإلا ستعتبر سرقة علمية , ومن يفعل ذلك يعرض نفسه للمسائلة القانونية
المبحث الأول: في مفهوم الدفع وحقيقته وأقسامه.
المطلب الأول: مفهوم الدفع لغة وشرعا وقانونا.
أولا: الدفع لغة يقصد بالدفع لغة: تنحية الشيء وإزالته بقوة، ومنه دفع القول أي رده بالحجة ويعني كذلك أن يدعي المدعي عليه أمرًا يريد به درء الحكم عليه في الدعوى، ومنه دافع عنه ودفع بمعنى تقول منه: دافع الله عنك السوء دفاعًا، واستدفعت الله الأسواء أي طلبت منه أن يدفعها عني، وتدافع القوم أي دفع بعضهم بعضًا.
ثانيا: الدفع شرعا:لم يتطرق الفقهاء القديمين لتعريف دقيق للدفع , وإنما تطرق له بعض المعاصرين وعرفوه على أنه " دعوى من قبل المدعى عليه أو ممن ينتصب المدعى عليه خصمًا عنه يقصد بها دفع الخصومة عنه أو إبطال دعوى المدعى".
ثالثا: الوسيلة التي يجيب بها الخصم على طلب خصمه بقصد تفادي الحكم لخصمه بما يدعيه. فإنه عندما يلجأ الشخص طالبًا حماية القضاء، فعليه أن يسلك إجراءً شكليًا رسمه النظام لكي يترتب على هذا اللجوء أثره، وأن يكون النظام - المرافعات الشرعية- قد أجاز له الالتجاء إلى القضاء لحماية الحق الذي يدعيه، ويستند هو إليه، فإن اكتمل له ذلك الثالوث (الشكل النظامي- الإجازة باللجوء إلى القضاء- الوقوف على حق) قضى له بمدعاة، ولو نقض من ذلك شيء كان لخصمه أن يجيب على ما يدعيه: بدفع: يوجه للخصومة فيكون شكليًا أو لأصل الحق الذي يعتصم به خصمه فيكون موضوعيًا أو للدعوى التي يستعملها فيكون مختلطًا بين الشكلية والموضوعية وهو ما يسمى بالدفع بعدم القبول .
المطلب الثاني: أقسام الدفوع
أولا: أقسام الدفوع في الفقه الإسلامي
الدفع الموضوعي: وهو الدفع الذي يقصد به إبطال نفس دعوى المدعي والهدف الذي يقصده منها، حيث يتعرض الدافع إلى صدق المدعي أو كذبه.
الدفع بانعدام الخصومة هو الدفع الذي يقصد به المدعى عليه دفع الخصومة عن نفسه، دون التعرض لأساس الحق المدعى به، أو صدق المدعي أو كذبه في دعواه، وانما يقتصر فيه الدافع على بيان أن يده على العين المدعى بها يد حفظ وليست يد خصومة، ومحل هذا الدفع دعوى العين، سواء أكانت عقارا أو منقولا، وتعرف الفقهاء بالمسألة المخمسة لأن المدعى عليه يدفع الخصومة بأن يده يد حفظ وليست يد ملك، فيقول في دفعه الدعوى بعبارة من العبارات التالية: هي وديعة أو هي عارية، أو مستأجرة، أو مرهونة، أو مغصوبة.
ثانيا : أقسام الدفوع في القانون:
الدفوع الموضوعية: وهي الدفوع التي تتعلق بموضوع الحق المدعى به، لبيان عدم أحقية المدعي بما يدعيه، وبالتالي إبطال دعواه إما كليا أو جزئيا".
الدفوع الشكلية : التعريف الأول: الدفوع المتعلقة بالإجراءات التي اتخذها المدعي ضد المدعى عليه ، لتعطيل الفصل في موضوع الدعوى أو إجراءاتها أو تأجيلها إحالة النزاع الى محكمة أخرى أو رفض الإحالة التعريف الثاني : هي سبب يرمي به الخصم إلى إعلان عدم قانونية المحاكمة أو سقوطها أو وقف سيرها التعريف الثالث: هي وسيلة تهدف إلى التصريح بعدم صحة الإجراءات أو انقضائها أو وقفها.
الدفع بعدم القبول وهو "الدفع الذي يرمي ببساطة إلى منع المحكمة من نظر الدعوى التي تختص بها لأن حق المدعي في طلب الحماية القضائية يتعين عدم قبوله لتخلف شرط من شروط قبوله.
المبحث الثاني: في حقيقة الدعوى وأركانها وشروطها.
المطلب الأول : مفهوم الدعوى لغة وشرعا وقانونا
أولا: الدعوى في اللغة: اسم لما يدعيه المرء و تطلق في اللغة على معانٍ كثيرة منها :
الدعاء: و منه قوله تعالى: " وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحَمْدُ لِلّهِ رَ ب الْعَالَمِينَ " و الدعاء الرغبة إلى الله تعالى فيما عنده من الخير ، والابتهال إليه بالسؤال
الزعم والإضافة: يقال ادعيت الشيء أي زعمته لي ؛ حق ا كان ، أو باطلاً ، ومنه قوله تعالى ( وقيل هذا الذي كنتم به تدعون)
الطلب و التمني: كما في قوله تعالى ( لهم فيها فاكهة ولهم ما يدعون) أي ما يتمنون ويطلبون
الإخبار كقولك : فلان يدعي بكرم فعاله، أي يخبر عن نفسه بذلك
وسميت الدعوى بذلك لأن المدعي يدعو صاحبه إلى مجلس الحكم لِيَخرُج من دعواه والتعريف اللغوي الذي له علاقة ببحثي هو التعريف الثاني الزعم والإضافة ،يقال ادعيت الشيء أي زعمته لي ؛حقاً كان ، أو باطلا وكذا المعنى الثالث الذي يفيد الطلب والتمنيً .
ثانيا: الدعوى شرعا
تعريف الحنفية: "قول مقبول عند القاضي يقصد به طلب حق قِبَلَ غيره أو دفعه عن حق نفسه "
تعريف المالكية: "قول هو بحيث لو سُلِمَ أوجب لقائله حقا "
تعريف الشافعية:. "إخبار عن وجوب حق على غيره عند حاكم"
تعريف الحنبلية: "إضافة الإنسان إلى نفسه استحقاق شيء في يد غيره ، أو في ذمته"
ثالثا : مفهوم الدعوى قانونا:
تُعرّف الدعوى بصفةٍ عامّة على أنّها: "سلطة الالتجاء إلى القضاء للحصول على تقرير حق أو لحمايته"، وعليه فإنّ الدعوى هي الوسيلة القانونية التي منحت للأشخاص في الدولة لحماية حقوقهم من أي اعتداءات داخلية أو خارجية، وتعدّ الدعوى إجراء من الإجراءات القضائية التي تحرص على أمن المجتمع واستقراره، فلولا وجود هذه الوسيلة لأقدم الأفراد على اقتضاء حقوقهم بأنفسهم مما يخل بأمن وأمان المجتمع، والدعوى هي حقّ شخصي للفرد، فله كامل الحرية إما برفعها أو بالتنازل عنها، وتنقسم الدعاوي إلى قسمين: الدعاوى المدنية المتعلقة بالحقوق المدنية للأشخاص، والدعاوى الجنائية المتعلقة بارتكاب الجرائم.
المطلب الثاني: أركان الدعوى وشروطها
أولا: أركان الدعوى
المدعي: يقصد بالمدعي: كل شخص يرفع شكاية او تظلما او دعوى امام القضاء يطلب انصافه في حق مادي او معنوي يدعي انه سلب منه، او حرم منه كلا او بعضا، معللا ادعاءه بقرائن ووثائق ومستندات واحداث ووقائع، وعلى المحكمة ان تصدر حكما بالرفض او القبول، وفي الاصطلاح الشرعي يقول ابن عرفة : ( المدعي من عَرِيَتْ دعواه عن مرَجِّح غَيْرِ شَهادةٍ) وقال القرفي هو (...مَنْ كَانَ قَوْلُهُ عَلَى خِلَافِ أَصْلٍ أَوْ عُرْفٍ).
المدعى عليه وهو الشخص الطبيعي او المعنوي الذي ترفع الدعوى ضده من قبل المدعي امام القضاء، وعليه ان يجيب في الاجل القانوني او الاجل الذي يحدده القاضي ويقصد به في الاصطلاح الشرعي يقول ابن عرفة (والمدعى عليه من اقترنت دعواه به) يقول القرافي (وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْ كَانَ قَوْلُهُ عَلَى وَفْقِ أَصْلٍ أَوْ عُرْفٍ) .
المدعى به: ويقصد به الحق الذي يطلبه المدعي بدعواه او بمعنى اخر هو الحق الذي يسعى المدعي الى تحصيله او حمايته برفعه للدعوى، ويكون بذلك المدعى به محل خلاف بين المدعي والمدعى عليه، ويكون اما اصولا ثابتة على حد تعبير الفقهاء او مالا معينا او مالا في الذمة.
ثانيا : شروط الدعوى:
أهلية المدَ عِي والمدَ عىَ عليه للخصومة في الدعوى: فإذا لم تتوفر مَثلَهُ وليه أو وصيه وعليه فدعوى المجنون والصبي غير المميز لا تصح منهما، إلا أن يمثلهما وصيهما أو وليهما مدعيين أو مدعى عليهما بالنيابة عنهما, إلا أن الحنفية: اجازوا للصبي المميز ان يكون مدعيا ومدعى عليه بإذن وليه، كما أجاز المالكية للصبي ان يكون مدعيا من دون اذن، وللسفيه كذاك ان يكون مدعى عليه ووفقهم الحنابلة في هذا الأخير بشرط ان يكون فيما يقبل منه حال سفهه، واجاز الشافعية أيضا للمحجور عليه ان يكون مدعى عليه فيما يصح اقراره به.
توافر الصفة: ومعنى الصفة في الدعوى ان يكون كل من المدعي و المدعى عليه ذا شأن في القضية التي أثيرت حولها الدعوى، وان يعترف الشارع بهذا الشأن ، ويعتبره كافيا لتخويل المدعي حق الادعاء ، ولتكليف المدعى عليه بالجواب و المخاصمة و الصفة في التقاضي "يجب توفرها في طرفي الدعوى معا المدعي و المدعى عليه ، فاذا رفعت الدعوى من طرف من لا حق له ، فان الدعوى لا تقبل شكلا ، اما اذا لم تتوفر الصفة في الطرف المدعى عليه فان دعوى المدعي ترد موضوعا لا شكلا"
أن تكون الدعوى ملزمة للخصم على فرض ثبوتها فإذا لم تكن ملزمة لم تصح ولا تسمع .
ان يكون المدعى به في ذاته مصلحة مشروعة، والهدف من المطالبة به تحصيل مصلحة مشروعة، وهو شرط المصلحة في الدعوى. ويقصد بالمصلحة في مصطلح علماء الشريعة الإسلامية انها: المنفعة التي قصدها الشارع الحكيم لعباده، من حفظ دينهم ونفوسهم و عقولهم ، ونسلهم ، واموالهم طبق ترتيب معين فيما بينها.
أن يكون المدعى به معلوما: والمراد بعلم المدعى به تصوره أي: تميزه في ذهن المدعي والمدعى عليه والقاضي، بمعنى ان لا يكون مجهولا اذ لا إلزام مع الجهالة.
ان يكون المدعى به محتمل الثبوت عقلا وعادة. فهذا الشرط محل اتفاق الفقهاء وتحمس اليه المالكية أكثر من غيرهم، باستثناء الشافعي وخالف في ذلك بعض أصحابه، فلا تقبل الدعوى بما يكذبه العقل او العادة، كان يدعي شخص بنوة من هو أكبر منه او من هو مساويه او ان يدعي فقير على غني بانه أقرضه مبلغا كبيرا من المال لا يعهد له بمثله
أن يكون المدعى به مشروعاً ،أو مما يتعلق به حكم ،أو غرض صحيح، أو مصلحة مشروعة
أن تكون الدعوى في مجلس القضاء: وهو محل جلوس القاضي، ولو حصلت في غير مجلسه كانت غير صحيحة، ولا يترتب عليها أي حكم
الجزم والقطع في الدعوى: فلو قال المدعي: أشك أو أظن، لم تصح الدعوى، وكل ما يفيد من ألفاظ الجزم والقطع بالمدعى به يعتبر دعوى صحيحة، وتسمع.
عدم التناقض في الدعوى: وذلك بأن يسبق كلام من المدعي لا يوافق كلامه اللاحق
أن تكون خصومة حقيقية بين المدعي والمدعى عليه.
المبحث الثالث: في تعريف النسب وبيان أسباب ثبوته.
المطلب الأول: تعريف النَّسب؛ لغةً واصطلاحًا:
أولا: النَّسب لغة: يقال: نَسب الشيء: إذا وضعه، وذكر نَسبه؛ أي: عزاه إليه، وناسبَ فلانًا: إذا شاركه وشاكله، ويقال: تناسب الشيئان: إذا تشاكلا، واستنسب فلانًا: سأله أن يذكرَ نسبه، والتناسب: التشابه ، والنَّسب: القرابة، ويقال النَّسب؛ أي: الصلة، وانتسب إلى أبيه؛ أي: التحق به، ورجل نسيب؛ أي: شريف معروف جنسه.
ويقال: النَّسَّاب والنَّسَّابة: وهو العالم بالأنساب، وناسب الشيء؛ أي: وافق مزاجه ولاءمه.
ثانيا: النَّسب اصطلاحًا: وله عدة تعريفات نذكر منها:"إنَّه علاقةُ الدم، أو رباط السلالة أو النوع الذي يربطُ الإنسانَ بأصولِه وفروعه وحواشيه". وقيل: "إنه رابطة سامية، وصلة عظيمة على جانبٍ كبير من الخطورةِ، تولاَّها الله بشريعتِه، وأعطاها المزيد من عنايتِه، وأحاطها بسياجٍ منيع يحميها من الفسادِ والاضطراب، فأرسى قواعدَها على أسسٍ سليمة".
المطلب الثاني: طرق ثبوت النسب
الإقرار: الإقرار بالنَّسب هو ما يسميه الفقهاءُ بالدَّعوة؛ أي: إنه يثبت عن طريقِ الاعتراف الشخصي بنفسِه وادعائه، تسمى دعوة لهذا السبب، وقد قال الفقهاءُ: إنَّ الإقرارَ حجة قاصرة، ومعنى ذلك أن أثرَ الإقرار لا يتجاوزُ المقر من أحكامٍ، ولهذا كان للإقرارِ آثارُه على المقر فقط دون غيره.
البينة: تُعَدُّ البينةُ من الطُّرقِ والأدلة العامة في النَّسب وفي غيره، وهي مأخوذة من البيانِ والوضوح، ويقال: استبان الصبح: وضح، وهو على بينةٍ من أمرِه؛ أي: على وضوحٍ وعدم خفاء. والبينة عبارة عن شهادةِ شاهدين؛ رجلين، أو رجل وامرأتين، أنَّ هذا الولد هو ابنُ فلان، وأنه وُلد على فراشِه من زوجتِه أو أمَتِه، وهذا القول عند أبي حنيفة ومحمد، أمَّا شهادة رجلين فقط عند المالكيةِ، وجميع الورثة عند الشَّافعية والحنابلة وأبي يوسف؛ حيث إنَّ الشَّهادة تكون لمعاينةِ المشهود به أو سماعه وقد اتفق الأئمَّةُ الأربعة على جوازِ إثبات النَّسب بالتَّسامح كما في الزَّواجِ والزفاف والرضاع؛ لأنَّ هذه الأمور لا يطَّلعُ عليها إلا الخواص، فإذا لم تقبل فيها الشهادةُ بالتسامح، أدَّى ذلك إلى حرجٍ وتعطيل الأحكامِ المترتبة عليها من إرثٍ وحرمة زواج.
القرعة: والقرعة مشتقة من القرعِ، وهو ضربُ شيء بشيء، وكانوا إذا خلطوا السِّهامَ ونحوها التي تستعملُ في القرعة، قرع بعضُهم بعضًا، ثم استعمل النَّاسُ القرعةَ بقطعِ رقاع صغيرة مستوية على عدد المقترعين، ويكتبُ في كلِّ رقعةٍ إشارةٌ خاصة متفق عليها، أو أسماء المقترعين، وتوضع في وعاءٍ، أو في صندوق، ثم يُدخِل أحدُهم يدَه ويخرج واحدةً منها، وهكذا، فمن خرج سهمُه أصبحت القرعةُ له أو عليه.
وقد ورد في هذا الدَّليلِ واتِّخاذه في إثباتِ النَّسب حديثٌ عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقد روى أبو داود والنسائي في سننِهما من حديثِ عبدالله ابن الخليل، عن زيد بن أرقم، قال: "كنتُ جالسًا عند النبي صلَّى الله عليه وسلَّم فجاء رجلٌ من أهلِ اليمن، فقال: إنَّ ثلاثةَ نفر من أهلِ اليمن أتَوا عليًّا يختصمون إليه في ولدٍ، فقرع عليٌّ بينهما، فقرع لأحدِهما الولد وعليه لصاحبِه ثلثا الدية، فضحك رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم حتى بدتْ أضراسُه ونواجذُه"
حكم القاضي: وهذا أيضًا دليل من الأدلةِ التي يشتركُ فيها النَّسب وغيره، وحكمُ القاضي أو قضاؤه يرفع الخلافَ ويفصل في القضية، إلا أنَّ القضايا ينكشفُ أمرُها من حيث النَّفاذ أو النقض. ولأنَّ الضرورةَ توجب القولَ بلزومِ القضاء المبني على الاجتهادِ، ولا يجوزُ نقضه؛ لأنه لو جاز نقضُه برفعِه إلى قاضٍ آخر، فإنه يؤدي إلى اندفاعِ الخصومة واستمرارها، وحُكْم القاضي عند الحنفيةِ نافذٌ في كلِّ مسألة مُجْتَهَد فيها، فلا يردُّ ولا ينقض، وهذا هو رأي المالكية أيضًا؛ حيث يقول الدردير في شرحِه الصغير: "ولا يتعقبُ حكم العدلِ العالم؛ أي: لا ينظر فيه من تولى جحده"
الاستفاضة: وهذا دليلٌ خامس من الأدلةِ العامة التي تستعملُ في إثباتِ النَّسب، ويُطلق عليها السَّماع، وهي أن يشهدَ جمعٌ يُؤمن تواطؤهم على الكذبِ بأنَّهم سمعوا أنَّ فلانًا ابنُ فلانٍ، وأنَّ هذا النَّسب مستفيضٌ بين النَّاسِ؛ أي: منتشر. ويرى الحنفيةُ قبولَ الشهادة بالاستفاضة أو السماع في النَّسب؛ حيث يقولُ الكاساني في شروطِ الشَّهادةِ: أن يكون التحملُ بمعاينةِ المشهود به بنفسِه لا بغيره، إلا في أشياء مخصوصة يصحُّ التحملُ فيها والتسامح من النَّاس؛ حيث لا تطلقُ الشهادة في التسامحِ إلا في أشياء مخصوصة، وهي: النِّكاح، والنَّسب، والموت، ويأتي التسامحُ من رجلين أو رجل وامرأتين.
الأسباب الخاصة لإثبات النسب
الفراش. قيل: إنَّ معنى الفراش اسمٌ للزوجة، وقد يُعبر به عن حالةِ الافتراش، وقيل: إنه اسم للزَّوجِ، وقيل: زوجة الرجل، وقد وردت أحاديثُ في الافتراشِ؛ منها حديثُ أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((الولد للفراشِ، وللعاهر الحجر)) ؛ أي: إنَّ الولد يلحقُ في الفراش، وقد قال أبو حنيفة: إنَّ الفراشَ يثبت بمجردِ العقد، وإنَّ مجردَ الظنية كافية فيثبت نسبه.
القيافة: وهي من القافة، والقائفُ: من يعرفُ الآثار، وقيل: قاف أثرَه إذا تبعَهُ، واقتاف أثرَه؛ أي: تبعَه، والقافُ من الحروفِ الهجائية.
والقيافة عند الفقهاءِ هي إلحاق الولد بأصولِه؛ لوجودِ الشبه بينه وبينهم، والقيافة عند الفقهاء مخصوصة بمعرفةِ النَّسب عند الاشتباه. وقد تفاوتتْ آراءُ الفقهاءِ في الاعتماد على القيافةِ في إثبات النَّسب، ولهم في ذلك قولان: فقد ذهب جمهورُ الفقهاءِ من المالكية والشافعية والحنابلة أنَّ العملَ بالقيافةِ شروعٌ في ثبوتِ النَّسب، بناء على العلاماتِ التي يعرفُها القائف، وإلى هذا ذهب بعضُ العلماءِ كابن عباس وأبي موسى الأشعري - رضي الله عنهم - وغيرهم.
وذهب الحنفيةُ والزيدية والإمامية إلى أنَّ معرفة النَّسبِ بالقيافة غيرُ مشروعٍ، فلا يُعملُ بقولِ القائف في هذا المجال.
الاستلحاق أو الدعوة: من الأدلةِ الخاصة بإثبات النَّسب، ولا يكون هذا الدَّليلُ إلا في النَّسبِ المتعلِّقِ بأمهاتِ الأولاد، وهو أن يدعي السيدُ أنَّ ما ولدته أمَتُه منه، ويطلقُ عليه الحنفيةُ لفظ "الدعوة" أو "الدعوى".
وقد يفيد الاستلحاق معنى الإقرار على أنَّ الاستلحاق أو الإقرار في الجاهليةِ لم يكن في الغالبِ إلا فيما يتعلَّقُ بإلحاقِ النَّسب من أولادِ الإماء، ولم يأخذ بدليلِ الدعوة هذا في إثبات النَّسب إلا الحنفية دون أصحابِ المذاهب الأخرى.
والدعوةُ التي يقولُ بها الحنفية وبعضُ الفقهاء من غيرِ أصحاب المذاهب المدونة هي: استلحاق ولدِ المستولدة لتصبحَ فراشًا لسيدِها؛ أي: إنَّ الأم إذا أراد سيدُها أن تكون فراشًا له، فلا يكفي أن يقرَّ بوطئها، بل لا بدَّ أن تصاحبه الدعوة؛ أي: استلحاق هذا الولد، فلا يثبتُ الاستيلاء دون دعوة.
وقد رُوي عن أبي حنيفة والثوري أنَّ الأمَةَ لا يثبتُ فراشُها إلا بدعوةِ الولد، فإن لم يدعه كان مِلْكًا له.
وقد ذهب الجمهورُ إلى أنَّه لا يعد في فراشِ الأمَة الدعوة؛ اعتمادًا على ظاهرِ الدَّليل، وهو حديث الفراش كما سبقت الإشارةُ إلى ذلك.
الحمل: وهو دليلٌ رابع من أدلةِ ثبوت النَّسب، وهو لا يكون إلا في المطلَّقاتِ؛ حيث إنَّ المطلقةَ ليست فراشًا، فقد زال الفراشُ بالطَّلاق.
المطلقة الرجعية: يثبت نسبُ المطلقة الرجعية إذا جاءت به لسنتين أو أكثر ما لم تقر بانقضاءِ عدتها، فإنْ أقرَّتْ بانقضاء عدتِها، ثم جاءت بولدٍ لا يثبت نسبُه، وهذا عند أبي حنيفة، أمَّا ثبوت نسب ولدِ الرجعية إذا جاءت به لأقل من سنتين فظاهرٌ، أمَّا ثبوته إذا جاءت به لأكثر منهما؛ فلاحتمال العُلوق في عدة الرَّجعيِّ، بأن امتدَّ إلى ما قبل سنتين من مجيئها به أو أقل، ثم وطئها فحملت.
والمطلقة المبتوتة: يثبت نسبُ المطلقة المبتوتة إذا جاءت بولد لأقل من سنتين؛ لأنه يجوزُ كون الحمل كان قبل الطَّلاقِ فيثبت النَّسب، وإن جاءت به لتمامِ سنتين من وقت الفرقة لم يثبت نسبه لتيقنِ العلوق بعد البينونة، وقد قيل: إنه لو جاءت المبتوتة بولدين أحدهما لأقل من سنتين والآخر لأكثر من سنتين ثبت نسبُهما عند أبي حنيفة، وعند محمدٍ لا يثبت؛ لأنَّ الثاني من علوقٍ حادث بعد الإبانةِ، فيتبعه الأولُ؛ لأنهما توءمان.
المبحث الرابع في الدفوع في دعوى النسب.
مر سابقا أن الدفوع إما أن تكون شكلية أو موضوعية , أو بعدم القبول , وهذه الأنواع الثلاث قد تطرأ على قضايا النسب , ودائما ما تكون الدفوع في النسب هدفها إما إثبات النسب أو نفيه , وفي كلتا الحالتين يكون الإعتراض من قبل المدعي على الطريقة التي ثبت بها النسب , هذا في الدفوع الموضوعية , أما في الدفوع الشكلية فيتطرق الادعاء الى الأساليب الإجرائية , ويطعن فيها .
وبحسب التقسيم الفقهي للدفوع, فقد قسمت الى قسمين وهي الدفع الموضوعي: وهو الدفع الذي يقصد به إبطال نفس دعوى المدعي والهدف الذي يقصده منها، حيث يتعرض الدافع إلى صدق المدعي أو كذبه والثاني :الدفع بانعدام الخصومة هو الدفع الذي يقصد به المدعى عليه دفع الخصومة عن نفسه، دون التعرض لأساس الحق المدعى به، أو صدق المدعي أو كذبه في دعواه.
المطلب الأول :الدفع بأن المولود من الزنا.
وصورته : هو أن يدفع به مِن المدَعى عليه في دعوى إثبات النسب وتقدم المستندات الدالة على أن الصغير محصول سفاح أو يطلب من المحكمة إحالة الدعوى للتحقيق لإثبات الدفع, ويكون الدفع بنفي النسب أو الدفع بإثبات نسبه لأولاد بادعائه أنهم أولاده من الزنا.
ولابد لثبوت النسب بالفراش من توافر عدة شروط منها وجود عقد زواج صحيح ومن ثم فإنه إذا لم يوجد عقد زواج صحيح فلا يثبت النسب ،وهكذا فإن للزوج أن يدفع دعوى النسب بعدم وجود عقد زواج صحيح لأن الزنا لا يثبت به النسب ومع ذلك يثبت نسبهم من المرأة .
والدليل في نسب ولد الزنا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الحَجَرُ", فإذا أقر رجل أنه زنى بامرأة حرة ، وأن هذا الولد ابنه من الزنا ، وصدقته المرأة فإن النسب لا يثبت من واحد منهما ، ولا فراش للزاني ، وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حظ الزاني الحجر فحسب وقيل هو إشارة إلى الرجم وقيل هو إشارة إلى الغيبة كما يقال للغيبة الحجر أي هو غائب لا حظ له, فعلى هذا إذا زنى رجل بامرأة فجاءت بولد فادعاه الزاني لم يثبت نسبه منه لانعدام الفراش وأما المرأة فيثبت نسبه منها لأن الحكم في جانبها يتبع الولادة
و يتضح أنه يجوز دفع دعوى إثبات النسب بأن الصغير محصول سفاح أو بأن الصغير من ماء الزنا , ويترتب على ذلك أنه إذا أقر رجل بأنه زنا بامرأة حرة وأن هذا الولد ابنه من الزنا وصدقته المرأة فإن النسب لا يثبت من واحد منهما وبناء على هذا تكون دعوى ثبوت نسب هذه الصغير على هذا غير مسموعة سواء أكانت مرفوعة من والدته أم من غيرها فالولد للفراش وإقرار المرأة بأن الولد من غير زوجها لا يقطع نسبه من فراشه، ولا يلحق بمن عاشرها معاشرة محرمة وبما أن النسب فيه حق لله تعالى، فعلى المحكمة إجراء المقتضى بالوجه الشرعي؛ لإلحاق نسب الصغير بمن ينسب إليه شرعاً وهو فراش الزوجية الصحيح.
المطلب الثاني :الدفع ببطلان الإقرار .
جاء في فقه الحنفية أن النسب كما يثبت في جانب الرجل بالفراش والبينة، فإنه يثبت بالإقرار ويشترط لصحة الإقرار بالبنوة أن يكون الولد مجهول النسب ،وأن يكون ممكناً ولادته لمثل المقر، وأن يصدق الولد المقر في إقراره،إن كان مميزاً وأنه متى صدر الإقرار مستوفياً هذه الشرائط فإنه لا يحتمل النفي ولا ينفك بحال سواء أكان المقر صادقاً في الواقع أم كاذباً لأن النفي يكون إنكاراً بعد الإقرار فلا يسمع وإذا أنكر الورثة نسب الصغير بعد الإقرار فلا يلتفت إليهم لأن النسب قد ثبت باعتراف المقر وفيه تحميل النسب على نفسه وهو أدرى من غيره بالنسبة لما أقر به ،فيرجح قوله على قول غيره.
ويجب لصحة هذا الدفع توافر عدة شرائط وهي أن يكون المقر له مجهول النسب ،وأن يكون ممن يولد للمقر، وأن يصدق المقر له المقر في إقراره إذا كان مميزا ،ًوألا يصرح المقر بأن الولد قد أتى من الزنا , والدفع ببطلان الإقرار كأي دفع موضوعي يجوز إبداؤه في أية حالة تكون عليها الدعوى ولولأول مرة أمام المحكمة.
المطلب الثالث :الدفع بعدم سماع الدعوى لولادة الصغير لأقل من ستة أشهر .
إذا وضعت المرأة لستة أشهر فأكثر بعد دخول زوجها بها فالولد للزوج؛ لأن أقل مدة الحمل ستة أشهر؛ لقوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} مع قوله: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} فإذا أخذ للفصال حولان: أربعة وعشرون شهرا لم يبق للحمل إلا ستة أشهر.
فيشترط لثبوت نسب الولد أيضاً أن تأتي به المرأة بعد ستة أشهر على الأقل من تاريخ العقد وإلا لا يثبت نسبه من الزوج لأن هذه المدة هي أقل مدة الحمل . وبذلك فإن الزوج يستطيع دفع دعوى النسب بأن الزوجة قد أتت بالمولود لأقل من ستة أشهر من تاريخ عقد الزواج فإذا ولدت المرأة بعد زواجها لأقل من ستة أشهر حكم ببطلان نسب الصغير للزوج وذلك شريطة إنكار الزوج النسب فإذا أقر الزوج النسب،أو لم يعترض عليه فلا ينطبق عليه الدفع.
المطلب الرابع :الدفع بعدم سماع الدعوى لولادة الصغير بعد سنة من تاريخ الفراق .
قال القرافي: " اعلم أن الأصل اعتبار الغالب , وتقديمه على النادر , وهو شأن الشريعة ... وقد يلغي الشرعُ الغالبَ رحمةً بالعباد , ويقدم عليه النادر ، مثال ذلك: غالب الولد أن يوضع لتسعة أشهر ، فإذا جاء بعد خمس سنين من امرأة طلقها زوجها دار بين أن يكون زنى ، وهو الغالب ، وبين أن يكون تأخر في بطن أمه ، وهو نادر ، ألغى الشارع الغالب , وأثبت حكم النادر , وهو تأخر الحمل ، رحمةً بالعباد لحصول الستر عليهم , وصون أعراضهم عن الهتك "
وعلى ذلك ، فإن كان هذا الرجل قد غاب عن زوجته مدة تدخل في عداد الأوقات التي ذكرها الفقهاء لبقاء الجنين في بطن أمه كالسنتين والثلاث والأربع , وقامت القرائن على صدقها ، ككونها عفيفة , وإخبار من يلازمها بدوام الحمل هذه المدة ونحو ذلك فهنا يلحق هذا الجنين بزوجها , خصوصا وأنه قد ثبت في العصر الحديث بعض الحالات النادرة التي تأخر فيها الجنين في بطن أمه لهذه الفترات , وقد ثبت هذا عند الشيخين الجليلين عبد العزيز بن باز , وبكر أبو زيد رحمهما الله تعالى .
ولكن قانون الأحوال الشخصية يوجب لثبوت نسب الولد من الزوج أن تأتي به المطلقة خلال سنة من تاريخ الطلاق وكذلك الحال بالنسبة للمتوفى عنها زوجها أو الغائب ، فإذا أتت به لأكثر من سنة من هذا التاريخ (الطلاق أو الوفاة أو الغيبة) لا يثبت نسب الولد من الزوج ،أو المطلق،ومن ثم يستطيع دفع دعوى النسب بشرط أولا :أن يكون المولود قد ولد بعد سنة من تاريخ الطلاق أو الوفاة أو الغيبة أو عدم التلاقي , ثانيا :أن ينكر المدعى عليه نسبه للصغير ،فإذا لم يتوفر أحد هذه الشرطين بطل الدفع .
المطلب الخامس: الدفع بعدم إمكانية حمل الزوجة من زوجها.
إذا حملت الزوجة وكان زوجها طفلا لم يبلغ فعند الحنفية لا يثبت هذا النسب إلا إذا كان عمر الطفل 12 سنة أو أكثر , بخلاف الشافعية الذين يجعلون عمر الطفل تسع سنوات , احتياطا للأنساب .
وقانون الأحوال الشخصية يقول أنه من الممكن أن يكون الزوج صغيراً لا يتصور الحمل منه كما أنه يمكن أن يكون لم يتم التلاقي بين الزوج وزوجته منذ تاريخ العقد كأن يكون قد تزوجها بالمراسلة ،أو لوجود مسافة بعيدة بينهما ،وفي كل هذه الأحوال لا يتصور حمل الزوجة من الزوج ومن ثم يستطيع الزوج دفع دعوى النسب بهذا لأحد الأسباب السابقة.
تعليقات
إرسال تعليق
علق هنا...