جامعة العلوم الإسلامية العالمية
كلية الشيخ نوح للشريعة والقانون
بحث بعنوان
أثر القرائن في اثبات عقوبة القتل
(دراسة مقارنة )
ملاحظة هامة : لا مانع من نسخ أي جزء من البحث بشرط ذكر المؤلف وعنوان البحث ضمن المراجع وإلا ستعتبر سرقة علمية , ومن يفعل ذلك يعرض نفسه للمسائلة القانونية
المقدمة:
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد:
فإني أود في هذا البحث أن أبين (دور القرائن في اثبات عقوبة القتل دراسة مقارنة بين الفقه الإسلامي والقانون الجنائي الأردني)
أولا: أهداف البحث:
شرح المقصود (بالقرينة)
بيان مشروعية القرائن
بيان شروط العمل بها .
بيان أقسامها وحكم كل قسم.
بيان حجية العمل بها في الفقه الاسلامي في قضايا الحدود التي تصل الى درجة القتل ( كرجم الزاني المحصن أو الحرابة أو حد الردة على رأي المالكية أو تارك الصلاة على رأي الشافعية ) .
بيان معنى القرائن في القانون والفرق بين القرائن القضائية والقرائن القانونية
بيان حجية العمل بالقرائن القضائية في اثبات العقوبات .
ثانيا: أهمية البحث:
تنبع اهمية البحث من كون القرائن احدى ادوات الاثبات المتغيرة بتغير الأزمان والأمكنة , فاستجدت مثلا البصمة الوراثية والتسجيلات الصوتية والفيديو و بصمة الإصبع وغيرها من القرائن الحادثة فوجب تتبع هذه التغيرات ودمجها ضمن القواعد الكلية , لكي يقوم القضاء بدوره على اكمل وجه في معاقبة المجرمين و إنصاف الأبرياء .
ثالثا: منهجية البحث:
اعتمدت في هذا البحث عدة مناهج
فبالمنهج الوصفي: قمت بتوضيح مفهوم الإثبات ومفهوم القرائن من بطون كتب اللغة ومن كتب الفقه والقانون لبيان المعنيين اللغوي والشرعي والقانوني وبالمنهج الاستقرائي: تتبعت أقوال العلماء القدامى والمعاصرين في حجية الاثبات بالقرائن وبينت أقوال الفقهاء في المسائل التي فيها خلاف, وبالمنهج الاستنباطي توصلت لخلاصات ونتاجات بعد التعمق في نصوص القانون .
خطة البحث
المبحث الأول: المفاهيم
المطلب الأول : مفهوم الثبوت والإثبات
المطلب الثاني: تعريف القرينة لغة واصطلاحا
المبحث الثاني: القرائن
المطلب الأول: مشروعية القرائن
المطلب الثاني: أنواع القرائن
المطلب الثالث: شروط العمل بالقرائن
المبحث الثالث: ثبوت القتل بالقرينة
المطلب الأول: اثبات الحدود بالقرائن
المطلب الثاني: اثبات القصاص بالقرائن
المطلب الثالث: اثبات العقوبة بالقرائن في القانون.
أولا: الفرق بين القرائن القانونية والقرائن القضائية
ثانيا: دور القرائن القضائية في الاثبات .
المبحث الأخير: الخلاصة والنتائج
المبحث الأول: المفاهيم
المطلب الأول : مفهوم الثبوت والإثبات
فالإثبات لغة: من ثبت ثبتا والتثبيت بمعنى ما يخرج من العدم إلى الوجود على نحو: اثبت الله كذا وتارة لم يحكم بالحك م: أثبت الحاكم على فلان كذا وكذا وثبته، والتثبيت هو الثابت العقال، وقيل أيضا بمعنى: التحقق والتأكد وتثبت الحق أكده بالبينات.
أما التعريف الفقهي للإثبات فهو: إقامة الدليل إمام القضاء بطرق الشريعة الإسلامية على حق أو واقعة ترتيب عليها آثار، أو بمعنى أخر هو إقامة الدليل عل ى ثبوت ما يدعيه قبل المدعى عليه وهو فعل يصدر من المدعى يبرهن بموجبه على صدق دعوا ه. وعرفه الإمام الجرجاني الحنفي بأنه الحكم بثبوت شيء آخر.
وعرفه الدكتور أحمد نشأت بأن ه: "لغة أو في الأصل أو على وجه العموم هو تأكيد حقيقة أي شيء بأي دليل أما المعنى القانوني للإثبا ت: هو تأكيد حق متنازع فيه له أثر قانوني بالدليل الذي إباحة القانون لإثبات ذلك الحق. ومن خلال هذه التعريفات يتبين الفارق الأساسي بين الإثبات والثبوت، فالإثبا ت والثبوت لفظان متغايران لكل منهما مقصده وغايته ومعناه المشتق مما كان عليه، وبمعنى أن الإثبات هو اليقين بخلاف الثبوت الذي يفيد الأمر باليقين أي وجود هذا الأمر حقيقة على الواقع هو وصف قائم الشيء المدعى به قبل المدعى عليه"
الإثبات ـ بمعناه القانوني ـ هو إقامة الدليل أمام القضاء ، بالطرق التي حددها القانون ، على وجود واقعة قانونية ترتبت آثارها
وقد أوردنا التعريف المختار لمصطلح الإثبات - وهو التعريف الذي قال به بعض فقهاء القانون - هو: " تقديم الدليل المقبول أمام القضاء بالطرق المقررة على واقعة قانونية محل نزاع بين الخصوم ". فهذا التعريف يتسم بالدقة و الوضوح والبساطة من جانب ، كما يتسم بالإحاطة بمعنى الإثبات وعناصره من ناحية ثانية، بحيث يغنينا عن غيره من التعريفات.
المطلب الثاني: تعريف القرائن لغة واصطلاحا
القرائن جمع قرينة؛ وهي من الفعل قرن بمعني جمع، تقول قرنت بين الحج والعمرة، أي جمعت بينهما بإحرام واحد، وقرنت بين البعيرين؛ أي جمعت بينهما بحبل واحد، وكل ما يقرن به بين شيئين فهو القِران، لذا يُقال لعقد الزواج عقد القِران؛ لأنه يقرن به بين الزوج والزوجة.
وكذلك فإن الفعل قرن يدل على المصاحبة، حيث يُقال للزوجة إنها قرينة فلان؛ لمصاحبتها إياه على الدوام، وكذلك يُقال للصديق قرين، لملازمته لصديقه باستمرار، ونفس الشخص يقال لها قرينة، لأنها تدل على صاحبها، حيث هي ملازمة لشخصه.
من خلال هذه المعاني كلها نستطيع القول إن القرينة تفيد معنى الجمع بين الأشياء، ومعنى المصاحبه والملازمة، ومن خلال ذلك يمكننا أن نستنبط معنى آخر للقرينة، وهو الدلالة على الشيء، حيث القرين يدل على قرينه؛ لشدة الملاصقة بينهما، تللك الملاصقة الناشئة عن الجمع بينهما، ومصاحبة كل منهما للآخر.
تعريف القرينة في الاصطلاح:
رغم أن الفقهاء القدامى قد عرفوا القرائن بدليل استعمالهم لها، واعتماد البعض منهم عليها في الإثبات، إلا أن الباحث لا يجد في مؤلفاتهم تعريفاً لها وقد يكون السبب في ذلك هو وضوح معناها بالنسبة لهم.
ومع ذلك فإن بعض الفقهاء المتأخرين قد عرّفها بأنها “أمر يشير إلى المطلوب“.
أما عند الفقهاء المحدثين فكان لها تعريفات مختلفة نختار منها:
1 ـ تعريف الشيخ مصطفى الزرقا وهو: “القرينة هي كل أمارة ظاهرة تقارن شيئاً خفياً فتدل عليه“.
2 ـ تعريف الدكتور وهبة الزحيلي: وقد عرف القرائن بنفس التعريف السابق الذي ذكره الشيخ الزرقا ولم ينسبه إليه.
3 ـ تعريف أحمد إبراهيم الذي نقله عن الاستاذ أحمد نشأت، حيث قال إن القرينة هي: “استنباط الشارع أو القاضي أمراً مجهولاً من أمر معلوم“.
4 ـ تعريف الدكتور أنور دبور، حيث عرف القرائن بأنها: “الأمارة التي نص عليها الشارع، أو استنبطها أئمة الشريعة باجتهادهم، أو استنتجها القاضي من الحادثة وظروفها وما يكتنفها من أحوال“.
هذه هي تعريفات الفقهاء المحدثين للقرينة، وهذه التعريفات في مجملها تفيد أن القرينة علامة ظاهرة يُستدل من خلالها على ما خفي من أمور.
التعريف الراجح:
بعد النظر في التعريفات السابقة للقرينة فإننا نرجح التعريف الأخير منها وهو أن القرينة هي: “ الأمارة التي نص عليها الشارع أو استنبطها أئمة الشريعة باجتهادهم أو استنتجها القاضي من الحادثة وظروفها وما يكتنفها من أحوال“، والسبب في هذا الترجيح أن التعريف كان جامعاً مانعاً.
المبحث الثاني: القرائن
المطلب الأول: مشروعية القرائن
إن الناظر في كتب فقه المذاهب يجد أن بعض الفقهاء ينظر إلى القرائن على أنها وسيلة مستقلة من وسائل الإثبات، والبعض الآخر يرى أنها وسيلة ثانوية يمكن أن يُستأنس بها في الإثبات بضمّها إلى غيرها من الوسائل الأخرى.
قال العز بن عبد السلام في سياق حديثه عن دلائل العادات وقرائن الأحوال: “الاعتماد في كون الركاز جاهلياً أو غير جاهلي على العلامات المختصة بإحدى الملتين: فما وجدت عليه علامات الإسلام كان لقطة واجبة التعريف، وما كان عليه علامات الجاهلية كان ركازاً يجب فيه الخمس.
واستدل القائلون بمشروعية القرائن على مشروعيتها من الكتاب والسنة
أولاً: القرآن الكريم:
1 ـ قوله تعالى: (وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ).
وجه الدلالة من الآية الكريمة: لم يقتنع نبي الله يعقوب عليه السلام بأن الذئب قد افترس يوسف عليه السلام كما ادّعى إخوته، وتوصل إلى هذه القناعة بقرينة أن قميص يوسف عليه السلام ما تمزّق نيتجة اعتداء الذئب عليه، إذ كيف يأكله الذئب ويمزق لحمه دون قميصه.
ويقول القرطبي في تفسيره لهلذ الآية: “استدل الفقهاء بهذه الآية في إعمال الأمارات في مسائل من الفقه كالقسامة وغيرها، وأجمعوا على أن يعقوب عليه السلام استدل على كذبهم بصحة القميص”.
2 ـ قوله تعالى: ]قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ * فََلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ * يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَـذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ.
وجه الدلالة من الآيات السابقة: يقرر القرآن أن الشاهد المذكور ـ أي الحاكم عبر عنه القرآن بالشاهد ـ في الآيات اعتمد على القرائن في الحكم في الدعوى الصادرة من كل من يوسف عليه السلام وامرأة العزيز، حيث اعتمد على قرينة (قد القميص) في الفصل بينهما، والقرآن يذكر ذلك على سبيل التقرير مما يدل على جواز القضاء بالقرائن.
3 ـ قوله تعالى: ] وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاَحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ .
وجه الدلالة من الآية الكريمة: جعل الله تعالى في الآية السابقة القرء علامة وقرينة على عدم الحمل، ومن هنا يُستدل على أن القرينة معتبرة شرعاً، ويصح الإثبات بها.
4 ـ قوله تعالى: "وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ".
وجه الدلالة من الآية الكريمة: في الآية السابقة يمتن المولى عز وجل على عباده بأن جعل لهم علامات مادية يهتدون بها، ومنها النجوم التي كان يهتدي بها المسافرون في أسفارهم، فإذا كان الشرع قد رضي هذه العلامات والقرائن في الأمور المادية المحسوسة فمن باب أولى أن تكون القرائن دلائل على الأمور الخفية.
ثانياً: السنة النبوية المشرفة:
1 ـ عن ذكوان مولى السيدة عائشة رضي الله عنها قال: سمعت عائشة تقول: سألت رسول الله r عن الجارية يُنكحها أهلها، أتستأمر أم لا؟ فقال لها رسول الله r: “نعم تستأمر” فقالت عائشة: فقلت له فإنها تستحي، فقال رسول الله r “فذلك إذنها إذا هي سكتت“.
وجه الدلالة من الحديث الشريف: جعل النبي r سكوت البكر قرينة دالة على رضاها بالنكاح، ذلك لأن من النساء الأبكار من تستحيي أن تصرح بهذا الرضا.
2 ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله r قال: “كانت امرأتان معهما ابناهما، جاء الذئب فذهب بابن إحداهما، فقالت صاحبتها: إنما ذهب بابنك، وقالت الأخرى: إنما ذهب بابنك، فتحاكمتا إلى داود، فقضى به للكبرى، فخرجتا على سليمان بن داود، فأخبرتاه، فقال: ائتوني بالسكين أشقه بينهما! فقالت الصغرى: لا تفعل يرحمك الله، هو ابنها، فقضى به للصغرى“.
وجه الدلالة من الحديث: يظهر من خلال نص الحديث أن نبيّ الله سليمان عليه السلام قد قضى
بين المتخاصمتين اللتين لا تملكان بينة على دعواهما بالقرائن، حيث اعتمد على خوف المرأة الصغرى على الطفل من الموت عند شقه بالسكين، وهذا دليل على أنها أمه بالفعل؛ حيث الأم أكثر شفقة على ابنها ورحمة به، ولا يمكن أن تتركه للموت حتى ولو بالتخلي عنه لامرأة غيرها، وبالتنازل عن حقها فيه.
3 ـ عن صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه عن جده قال: بينما أنا واقف في الصف يوم بدر، فنظرت عن يميني وشمالي فإذا أنا بين غلامين من الأنصار حديثة أسنانهما، تمنيت أن أكون بين أضلع منهما، فغمزني أحدهما فقال: يا عماه هل تعرف أبا جهل؟ قلت: نعم، وما حاجتك إليه يا ابن أخي؟ قال: أُخبرت أنه يسب رسول الله r، والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا، فتعجبت لذلك، فغمزني الآخر فقال لي مثلها!! فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يدور في الناس، فقلت لهما: ألا أن هذا صاحبكما الذي تسألان عنه، فابتدراه بسيفيهما فضرباه حتى قتلاه، ثم انصرفا إلى رسول الله r فأخبراه، فقال: “أيكما قتله” فقال كل واحد منهما: أنا قتلته، فقال: “هل مسحتما سيفيكما؟” قالا: لا، “فنظر في السيفين فقال كلاكما قتله” وقضى بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح، وكان الآخر معاذ بن عفراء.
وجه الدلالة من الحديث الشريف: حينما ادعى الغلامان أن كلاً منهما قد قتل أبا جهل، لوم يكن مع أحد منهما بينة على دعواه، لجأ رسول الله r إلى القرائن يستعين بها في القضاء بين المتخاصمين، من أجل ذلك سألهما هل مسحا الدم عن سيفيهما، فلما رأى أن السيفين قد تلطخا بدماء أبي جهل، عرف بهذه القرينة أنهما جميعاً قتلاه، وحكم r بذلك.
ثالثاً: مشروعية القرائن من المعقول:
وذلك كما يلي:
1 ـ إن عدم العمل بالقرائن يؤدي إلى ضياع الحقوق، وخصوصاً عند فقدان البينات الأخرى أو تعارضها، وهذا الأمر مخالف لمقصد الشرع من حفظ حقوق الناس وعدم ضياعها، ويساعد المجرمين على استلاب حقوق الناس، ويسهل لهم الاعتداء عليها، وخصوصاً إذا علموا أن لا بينة لصاحب الحق على حقه.
2 ـ جاء عن النبي r قوله: “البينة على المدعي …“، حيث يقرر النبي r في هذا النص أن على مدعي الحق أن يثبته بالنبيّنة؛ والبيّنة هي اسم لك ما يبين الحق ويظهره، والقرينة من هذا القبيل، فإن الحق قد يثبت بها ويظهر، وعليه يتقرر كونها وسيلة من وسائل الإثبات المشروعة.
والفريق الثاني: يرى عدم اعتماد القرائن وسيلة من وسائل إثبات الحقوق، وينسب هذا الرأي إلى بعض الحنفية وبعض المالكية.
واستدلوا على ذلك بما يلي:
أ- عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((البينة على المدَّعي، واليمين على من أنكر)).
وجه الاستدلال بالحديث: الحديث اعتمد البينة وسيلة لإثبات الحق، ولو كانت القرينة مُعتمدة لذِكرها الحديث، وعدم ذكرها دليل على عدم اعتمادها وسيلة من وسائل إثبات الحق.
ب- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو كنت راجمًا أحدًا بغير بينة، لرجمتُ فلانة؛ فقد ظهر منها الريبة في منطقها، وهيئتها، ومن يدخل عليها)).
وجه الاستدلال بالحديث: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُقم الحد على المرأة بناءً على الظاهر، وهذا دليل واضح على عدم اعتماده صلى الله عليه وسلم القرينة وسيلة من وسائل الإثبات.
جـ- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: شرب رجل فسكر، فلُقي يَميل في الفجِّ، فانطُلق به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلما حاذى بدار العباس، انفلَت، فدخل على العباس فالتزَمه فذكَر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فضحك وقال: ((أفعلها؟)) ولم يأمر فيه بشيء.
وجه الاستدلال بالحديث: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بإقامة الحد على الرجل؛ لأنه لم يعتمِد قرينةَ سُكرِه دليلاً على ذلك، ولو كانت القرينة وسيلة إثبات؛ لأقام النبي صلى الله عليه وسلم الحد، بناءً عليها.
د- أما المعقول: فإن القرائن وإن كانت قوية من حيث الظاهر قد يظهر بعد ذلك الأمر على خلافها، ويتطرَّق إليها الاحتمال، وتدور حولها الشبهات، وقد يترتب على الحكم بها الظلم والمفسدة، وهذا لا يجوز شرعًا؛ عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: ((ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن وجدتم لمسلم مخرجًا، فخلوا سبيله، فإن الإمام أن يُخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة)).
ويتضح مما سبق رجحان مذهب الجمهور في اعتماد القرائن وسيلة من وسائل الإثبات في الشريعة الاسلامية والقانون , لذلك فإنِّي أميلُ إلى اعتِماد القرائن وسيلة من وسائل إثبات الحقوق الشخصية والمدنية والجزائية، إذا كانت قاطعةً ومشروعةً، ولا يتطرَّق إليها الاحتِمال
للأَسباب التاليَة:
1- قوَّة أدلَّة القائلين بها.
2- ضَعفُ أدلَّة المانِعين.
3- تَحقيق مقاصد الشارع بإقامة العدْل وحفظ الحقوق.
4- ولأنَّها بيِّنة تندرِجُ تحت مَفهوم قوله عليه السلام: ((البيِّنة على من ادعى)).
5- ولأنَّ القوانين المستمَدَّة من الفقه الإسلامي اعتمدتْها وسيلة مِن وسائل الإثبات.
وقد ذهبت معظم القوانين المستمَّدة من الفقه الإسلامي، إلى اعتماد القرائن، وسيلةً من وسائل إثبات الحقوق؛ ومن ذلك القانون المدنيُّ الأردني، وحسب نص المادة (72) منه، وقانون المعاملات المدنية الإماراتيُّ وحسب نص المادة (112)، والتي حدَّدت وسائل الإثْبات، على النحو الآتي: أ- الكتابة. ب- الشهادة. جـ- القرائن. د- المُعايَنة والخِبرة. هـ- الإقرار. ىو- اليمين.
وجاء في المادة (114)، الكتابة والشَّهادة والقرائن القاطعة، والمعاينة، والخِبرة، حجَّة مُتعديَة، والإقرار حجة مقصورة على المقر.
المطلب الثاني: أنواع القرائن
اختلف الفقهاء في اتجاهاتهم في تقسيم القرائن ولكن ما وصل اليه الدكتور محمد رأفت عثمان في كتابه النظام القضائي في الفقه الإسلامي هو زبدة هذه الاختلافات لذلك سأورد تقسيمه دون التطرق للخلافات.
قال بعد ذكر الخلافات : هذه هي اتجاهات الفقهاء المعاصرين الذين اطلعنا على كتاباتهم في تقسيم القرينة، ويمكن لنا أن نقسمها إلى أربعة أقسام:
القسم الأول: أن تكون دلالتها قوية بحيث تفيد اليقين، وهو القسم الأول من تقسيم الدكتور عبد السميع إمام، ومثاله نفس المثال المذكور، وهذا النوع -كما قال الدكتور عبد السميع- لا يسوغ لأحد أن يرده، ولا يقضي به، فإنه أقوى من الشهادة والإقرار.
ومثال هذا القسم أيضًا سلامة قميص يوسف عليه السلام فإنه قرينة قوية تفيد اليقين أنه عليه الصلاة والسلام لم يأكله الذئب كما ادعى إخوته.
هذا وقد كان رأيي أنه يمكن أيضا أن يمثل لهذا النوع من القرائن بما لو ثبت من تحليل دم الزوجين أن دمهما من فصيلة "A" وثبت من تحليل دم الطفل أن دمه من فصيلة "B" فإن هذا يعد قرينة قوية تفيد اليقين أن الطفل ليس ابنا لهذين الزوجين؛ وذلك لأنه -كما قال العلماء التجريبيون- تتأثر فصيلة دم الطفل بنوع فصيلة دم الأب والأم، وقالوا من المستحيل العادي إذا كانت فصيلة الدم من الزوجين "A" أن تكون فصيلة دم طفل من هذا الزواج "B" وإنما فصيلة الدم التي من المحتمل أن تكون لهذا الطفل هي "O" أو "A"، وكان من رأيي أنه بناء على هذا فيمكن أن يكون تحليل الدم وسيلة يقينية لنفي النسب، كما يرى ذلك بعض الباحثين المعاصرين لكن رأيي تغير في هذه المسألة؛ لأن نظام فصائل الدم الذي يؤكده علماء الوراثة الآن لم يجئ باستقراء وتتبع كامل لكل أفراد البشر في العصور المختلفة، وإنما هو نتيجة استقراء ناقص، ومن المحتمل أن تشذ عما قاله علماء الوراثة حالات متعددة، ولهذا أرى الآن أنه لو شك زوج في زوجته، بناء على أمارات قوية رسخت هذا الشك عنده ثم جاء ولدها بفصيلة دم يستحيل عندهم أن تكون فصيلة محتملة لهذا الولد من هذا الزواج، فإن هذا في رأيي الآن، قرينة لا تفيد اليقين، ولكنها تفيد غلبة الظن فقط، وإذا كان من الجائز للزوج الذي غلب على ظنه سوء في سلوك زوجته أن يقذفها بالزنا إذا رأى أمارة قوية, كما صرح بذلك بعض فقهائنا القدامى، فإنه بناء على هذا، إذا جاءت فصيلة دم الولد مخالفة لما هو معروف علميا الآن من الفصائل المحتملة في هذا الزواج كان ذلك مبررا للزوج في جواز إقدامه على اتهام امرأته, التي يغلب على ظنه سوء سلوكها؛ لأمارة أخرى قوية مع هذه الأمارة، بجريمة الزنا ونفي الولد باعتبار أن تحليل الدم قرينة قوية تفيد غلبة الظن ولا تفيد اليقين كما كنت أرى قبل ذلك، مع ملاحظة أنه إذا لم ينف الزوج الولد فالقاعدة الشرعية أن الولد للفراش أي: ينسب للزوج، كما بين ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الشريف: "الولد للفراش وللعاهر الحجر".
وكل هذا بناء على ما قرره علماء الوراثة والأطباء، فالفتوى مبنية على أن ما قالوه وقرروه حقيقة علمية لا تقبل النقض، فهم المسئولون عن تقرير هذه الحقيقة العلمية، والفقه الإسلامي يتفق مع الحقائق العلمية.
لكن لا يكون تحليل الدم وسيلة لإثبات النسب، وهذا بناء على ما أكده الأطباء والمعمليون المعاصرون، فالفتوى تبنى على ما قرروه في ذلك، فهم المسئولون عن هذه النتيجة التي نحكيها عنهم، فإذا كان ما قرروه قد ثبت ثبوتا قطعيا لا يتخلف ولو مرة، فيكون الحكم كما بينا.
القسم الثاني: أن تكون دلالة القرينة لا تفيد اليقين لكنها تفيد غالب الظن الذي يقرب من اليقين، ويمكن التمثيل لهذا القسم بظهور الحمل على امرأة ليست مزوجة ولا معتدة، ووجود شخص سكران أو يتقايأ الخمر، فإن مثل هذا -كما سبق تقريره- يفيد ظنا غالبا يقار اليقين أن المرأة حملت من سفاح وأن السكران و الذي يتقايأ الخمر قد شربها متعمدا.
وأرى أيضًا أن المثال الذي ذكره الدكتور عبد العال عطوة للقرينة التي تكون دلالتها قوية بحيث تصل إلى درجة اليقين، وأعني به صورة الرجل الذي خرج من دار مضطربا، ملوثة ملابسه بالدماء يحمل سكينا ملوثة أيضا.. إلى آخره، أرى أن هذه الصورة تصلح أن تكون مثالا هنا للقرينة التي تفيد غالب الظن الذي يقرب من اليقين، وليس كما يرى الدكتور عبد العال عطوة وغيره أن دلالة القرينة هنا قوية تصل إلى درجة اليقين. فمن المحتمل أن يكون القتيل قد أراد قتل الذي خرج بهذه الهيئة فأخذ السكين وأصاب نفسه عند الاشتباك بين الاثنين بالقوة الزائدة، فأخذها الخارج وفر هاربا مذعورا من هول الحادث ولم يحس بحمله للسكين.
وهذا الاحتمال أثاره صاحب تكملة ابن عابدين مع احتمالات أخر، رآها لا تشجع على القول بوجوب القصاص، على الخارج من الدار بهذه الصفة، قال صاحب تكملة ابن عابدين معقبا على هذه الصورة التي ذكرها ابن الغرس من الحنفية في كتابه الفواكه البدرية: "والحق أن هذا محل تأمل، ولا يظن أن في مثل ذلك يجب عليه القصاص، مع أن الإنسان قد يقتل نفسه، وقد يقتله آخر ويفر، وقد يكون أراد قتل الخارج فأخذ السكين وأصاب نفسه فأخذها الخارج، وفر منه وخرج مذعورا, وقد يكون اتفق دخوله فوجده مقتولا فخاف من ذلك وفر، وقد تكون السكين بيد الداخل فأراد قتل الخارج ولم يتخلص منه إلا بالقتل فصار دفع الصائل، فلينظر التحقيق في هذه المسألة" ا. هـ.
كما يمكن أيضا التمثيل لهذا القسم بوجود بقعة من دم إنساني، من نفس فصيلة دم القتيل، على ملابس صديق له، كان يوجد معه في وقت مقارب لوقت ارتكاب الجريمة، أو وجود بصمة المتهم على السلاح المستعمل في جريمة القتل.
ويرى بعض العلماء المعاصرين أن البصمة تفيد اليقين، فيعتمد عليها أكثر من الاعتماد على الشهود؛ لأن شهادة الشهود تفيد غلبة الظن بما شهدوا به، وأما البصمة فدلالتها يقينية لا تكذب.
ويمكن أن يقال إن الشهود يحكون ما حدث أمامهم، فغالب الظن -لأنهم عدول- أن ما يشهدون به حدث، أما البصمة فلا تفيد إلا مجرد وجود صاحبها في مكان البصمة، ولا تفيد يقينا بحدوث الواقعة محل التهمة من صاحب البصمة؛ لأن وجوده في مكان الجريمة لا يستلزم أن يكون هو الذي ارتكبها، فقد يكون حضر إلى هذا المكان لأمر آخر غير ارتكاب هذه الجريمة، وقد يكون وجوده في مكان الجريمة قبل وقوعها أو بعد وقوعها.
القسم الثالث: أن تكون القرينة تفيد مجرد الظن العادي ولم يوجد معه ما يقويه، كما لم يوجد معه ما ينافيه، إلا مجرد احتمالات قريبة الوقوع في العادة، وهذا القسم ذكره الدكتور عبد السميع إمام قسما رابعا عند تقسيمه للقرينة، ومثاله وجود شخص يركب سيارة وقد وقف بجوار جريح أو قتيل، فهذا النوع -كما سبق بيانه- يفيد ظنا ما بأن الذي يقف بسيارته بجوار الجريح أو القتيل هو الذي أصابه، ولكن في نفس الوقت يحتمل احتمالا غير بعيد أنه لم يصبه بسيارته.
كما يمكن التمثيل لهذا القسم أيضا بما لو وجدت إجابة الطالب في أوراق الامتحان مطابقة تمام المطابقة لما هو مكتوب في الكتاب المقرر دراسته، فهذا يفيد ظنا ما بأن الطالب قد اعتمد على الغش في الامتحان؛ لأن مما جرت به العادة أن لا تكون إجابات الطلاب في الامتحان مطابقة تمام المطابقة لما هو موجود في الكتب، وإنما يختلف تعبير الطلاب كثرة أو قلة عن تعبير الكتاب المقرر، وكلما قويت حافظة الطالب كان تعبيره قريبا مما هو موجود في الكتب، ولكن في نفس الوقت يحتمل احتمالا غير بعيد أن الطالب قد بلغ درجة قوية جدا في ملكة الحفظ، فساعد ذلك على أن تكون إجابته بهذه الصورة.
القسم الرابع: أن تكون دلالة القرينة تفيد ظنا ضعيفا، كبكاء الشاكي، ووجود رجل وامرأة غريبة عنه في مكان مظلم وحدهما ليلا، لكن لم يشهد شهود بأنه حدث بينهما ما يوجب إقامة حد الزنا عليهما.
وهذا القسم هو القسم الثاني من القسمين اللذين قسم الدكتور عبد العال عطوة القرينة إليهما.
المطلب الثالث: شروط العمل بالقرائن
أولا: أن تكون دلالتها قطعية : من شروط القرينة ان تكون دلالتها قطعية بحيث تقارب من اليقين أما اذا كانت ضعيفة فلا يعول عليها امام القضاء .
مثال ذلك من القرآن: قال تعالى ( وجاءوا على قميصه بدم كذب).
ثانيا: أن لا يعارض القرينة قرينة أخرى أو دليل آخر: من شروط العمل بالقرينة ايضا انتفاء المعارض من قرينة اخرى او دليل اخر فإن وجد معارض فلا يعمل بالقرينة .
مثال ذلك: ( وجاءوا على قميصه بدم كذب). إذ أن اخوة يوسف ادعوا بأن الذئب أكل يوسف وقد جعلوا الدم على القميص قرينة على صدقهم , ولكن الله كشفهم بقرينة أن القميص سالم من التمزيق فكيف يكون الذئب قد أكله مع سلامة قميصه , إذا فقرينتهم عارضتها قرينة أقوى منها منعت إعمالها وأبانت كذبهم لذلك قال سيدنا يعقوب بعدها ( قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون) .
ثالثا: أن يكون المرجع في تقديرها الى الحاكم : لا بد من اعتبار القرائن التي يقدره الحاكم إذ انه ينبغي فقط ان يعول عليها , لأنه ينبغي أن يكون فقيها عالما حكيما , لأن هذا ما يؤهله لفض الخصومات والمنازعات بين الناس.
رابعا: أن لا يكون العمل بالقرينة لإثبات موجبات الحدود , فلا يعمل بالقرائن في اثبات الحدود , والكلام في ذلك سنفصله في المبحث الثالث , المطلب الأول : إثبات الحدود بالقرائن بإذن الله.
المبحث الثالث: ثبوت القتل بالقرينة
يُعرّف القتل لغةً على أنه إزهاق روح الإنسان، أو إماتته، أو الفتك به، أو ذبحه، ومن الجدير بالذكر أن الإسلام حفظ النفس البشرية من العدوان، حيث إن الغاية من أحكام الشريعة الإسلامية حفظ الضرورات الخمس، وهي حفظ الدين، وحفظ النفس، والنسل، والعقل، والمال، ولأن حفظ الدين مقدم على حفظ النفس؛ شُرع الجهاد في سبيل الله الذي من الممكن أن تُزهق فيه أرواح المسلمين في سبيل إعلاء كلمة الله -تعالى- والدفاع عن الإسلام، ومن أجل حفظ النفس حرّم الله -تعالى- قتل النفس المسلمة بغير حق، وشُرع القصاص من القاتل، فقد قال عز وجل: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، ورُوي عن رسول الله- صلى لله عليه وسلم- أنه قال: (لا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، يَشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وأَنِّي رَسولُ اللهِ، إلَّا بإحْدَى ثَلاثٍ: الثَّيِّبُ الزَّانِي، والنَّفْسُ بالنَّفْسِ، والتَّارِكُ لِدِينِهِ المُفارِقُ لِلْجَماعَةِ). وتجدر الإشارة إلى أن جريمة قتل المؤمن من أبشع الجرائم، وأكبر الكبائر، وأفظع الذنوب في الإسلام، وقد توعّد الله -تعالى- من يقتل مؤمناً متعمداً بالغضب، والعذاب العظيم، والطرد من رحمته، والخلود في نار جهنم، حيث قال: (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا)، وقد رُويت الكثير من الأحاديث التي حذّر فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من العدوان على نفس المؤمن، ومنها قوله عليه الصلاة والسلام: (لَزَوالُ الدنيا أهونُ على اللهِ مِنْ قتلِ مؤمِنٍ بغيرِ حقٍّ)، ولم يقتصر الوعيد بالعقوبة على القاتل فحسب، بل شمل كل من كان حاضراً للقتل وكان يستطيع منعه أو الحيلولة دون وقوعه ولم يفعل، أو شجّع القاتل على القتل، أو أعانه على ذلك، مصداقاً لما رُوي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (لو أنَّ أهلَ السماءِ والأرضِ اشتركوا في دمِ مؤْمِنٍ لكبَّهم اللهُ عزَّ وجلَّ في النارِ). أنواع القتل ينقسم القتل إلى ثلاثة أنواع، وهي: القتل العمد، والقتل شبه العمد، والقتل الخطأ، ويتم التفريق بين كل نوع من أنواع القتل بالاعتماد على قصد القاتل، ونوع الأداة المستخدمة للقتل، ويترتب على كل نوع من أنواع القتل أحكاماً شرعيةً خاصةً به سيتم ذكرها في موضعها.
المطلب الأول : اثبات الحدود بالقرائن
واذ اننا نود الحديث عن اثبات الحدود بالقرائن فإنا بذلك نقصد اثبات الحدود التي تصل عقوبتها الى القتل و هي مختلف فيها بين الفقهاء , فاتفقوا على أن قطع الطريق من الحدود المقدرة بتقدير الشارع , وأضاف المالكية الردة والبغي من الحدود , وأضاف الشافعية ترك الصلاة إلى الحدود .
آراء الفقهاء في العمل بالقرينة في الحدود:
اختلف الفقهاء في هذا على رأيين:
الرأي الأول: يرى المالكية اعتبار القرائن في الحدود، ويوافقهم على هذا الرأي ابن القيم الفقيه الحنبلي المشهور وروى الحنابلة رواية عن أحمد تقول بوجوب الحد بوجود رائحة الخمر من فم شخص، ومع أنهم ذكروا رواية عن أحمد تقول إنه لا يحد بالسكر أو بتقايؤ الخمر، لاحتمال أن يكون مكرها، أو لم يعلم أنها تسكر، إلا أن ابن قدامة قال: "ورواية أبي طالب عنه "أي: عن أحمد" في الحد بالرائحة تدل على وجوب الحد ههنا بطريق الأولى". لأن ذلك لا يكون إلا بعد شربها، فأشبه ما لو قامت البينة عليه بشربها.
الرأي الثاني: يرى الحنفية، والشافعية، والحنابلة عدم اعتبار القرائن وسائل إثبات في الحدود
أدلة الفريق الأول:
أولا- أولا: ما روي عن ابن عباس قال: قال عمر بن الخطاب: كان فيما أنزل الله آية الرجم، فقرأناها وعقلناها ووعيناها، ورجم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: والله ما نجد الرجم في كتاب الله تعالى، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله تعالى، والرجم في كتاب الله حق على من زنا إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة، أو كان الحبل، أو الاعتراف.
ثانيا: ما روي عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أنه قال: يا أيها الناس إن الزنا زناءان: زنا سر، وزنا علانية، فزنا السر أن يشهد الشهود فيكون الشهود أول من يرمي، وزنا العلانية أن يظهر الحبل أو الاعتراف فيكون الإمام أول من يرمي.
ثالثا: ما روي عن علقمة بن وائل الكندي عن أبيه، أن امرأة خرجت على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تريد الصلاة، فتلقاها رجل، فتجللها فقضى حاجته منها، فصاحت، فانطلق ومر عليها رجل فقالت إن ذاك الرجل فعل بي كذا وكذا، ومرت بعصابة "أي: جماعة" من المهاجرين فقالت: إن ذاك الرجل فعل بي كذا وكذا، فانطلقوا، فأخذوا الرجل الذي ظنت أنه وقع عليها، وأتوها به فقالت: نعم هو هذا، فأتوا به رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فلما أمر به ليرجم قام صاحبها الذي وقع عليها فقال: يا سول الله أنا صاحبها، فقال لها: "اذهبي فقد غفر الله لك"، وقال للرجل قولا حسنا، وقال للرجل الذي وقع عليها "ارجموه"، وقال: "لقد تاب توبة لو تابها أهل المدينة لقبل منهم".
أدلة القائلين بعدم العمل بالقرائن في الحدود:
أولا: ما رواه ابن عباس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لو كنت راجما أحدا بغير بينة لرجمت فلانة، فقد ظهر منها الريبة في منطقها، وهيئتها، ومن يدخل عليها".
ثانيا: ما رواه ابن عباس قال: شرب رجل فسكر، فلقي يميل في الفج2، فانطلق به إلى النبي -صلى الله عليه وسلم، فلما حاذى بدار العباس انفلت فدخل على العباس فالتزمه، فذكر ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم، فضحك وقال: "أفعلها؟ ولم يأمر فيه بشيء"."..
ثالثا: ما روي عن عائشة قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخلوا سبيله،فإن لإمام إن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة".
رابعا: إقامة الحد إضرار بمن لا يجوز الإضرار به، وهو قبيح من الناحية العقلية والشرعية، فلا يحوز منه إلا ما أجازه الشارع كالحدود والقصاص وما أشبه ذلك بعد حصول اليقين؛ لأن مجرد الحدس، والتهمة، والشك، مظنة للخطأ والغلط، وما كان كذلك فلا يستباح به تأليم المسلم وإضراره بلا خلاف.
ومما سبق يغلب على الظن عدم العمل بالقرائن في الحدود، ومن أقوى الأدلة على ذلك أن القرينة مبنية على الشبهة والحدود تدرأ بالشبهات.
المطلب الثاني: اثبات القصاص بالقرائن
في اللغة العربية القصاص هو مطلق المساواة والتتبع. والقصاص مأخوذ من قص الأثر، وهو إتباعه، ومنه القاص لأنه يتبع الآثار، والأخبار، وقص الشعر أثره، فكأن القاتل سلك طريقا من القتل فقص أثره فيها، ومشي علي سبيله فيها، ومن ذلك قوله تعالي(فارتدا علي آثارهما قصصا) وقيل القص القطع، يقال قصصت ما بينهما، ومنه أخذ القصاص، لأنه يجرحه مثل جرحه، أو يقتله به، ويقال أفص الحاكم فلانا من فلان، وأباده به فأمتثل منه أي اقتص منه.
ونحن بهذا الصدد نود ان نقتصر في الحديث عن القصاص بالنفس فقط , دون الحديث عن القصاص فيما دون النفس , رغم انها ستدخل ضمنا في بعض الصور والاحكام.
يرى بعض الفقهاء أنه يؤخذ بالقرائن -إذا كانت قوية الدلالة بحيث تقارب اليقين- في إثبات جريمة القتل بدون احتياج إلى القسامة، وأما إذا كانت القرائن ضعيفة فإنه يعمل بالقسامة.
ويرى آخرون عدم جواز العمل بالقرائن في إثبات جرائم القتل, ولو كانت القرائن قوية الدلالة بحيث تقارب اليقين، بل يلجأ إلى القسامة وموجبها في صورة معينة.
وممن يرى أن القرائن تصلح وسيلة من وسائل إثبات القصاص ابن الغرس من الحنفية, وابن فرحون من المالكية، وابن القيم الفقيه الحنبلي.
ونقل الحنفية عن أبي حنيفة -رضي الله عنه- أنه يرى أن النكول عن اليمين قرينة يؤخذ بها في دعوى القصاص في الأطراف، فيقضي القاضي بالقصاص في العمد في الأطراف عند نكول المدعى عليه عن اليمين، ويقضي بالدية في الخطأ، وأما صاحباه أبو يوسف ومحمد فيريان أنه في حالة النكول لا يقضي بالقصاص في النفس والطرف جميعا، ولكن يقضي بالأرش "التعويض" والدية، سواء أكانت الدعوى في القصاص في النفس أم في الأطراف.
ويرى جمهور العلماء أن القرائن ليست وسيلة إثبات في القصاص ولو كانت قوية الدلالة وقاربت اليقين، والواجب حينئذ هو القسامة وموجبها في صورة معينة.
أدلة القائلين بإثبات القصاص بالقرينة:
أولا: استدل هؤلاء بالأدلة التي استدلوا بها على أن القرينة وسيلة من وسائل الإثبات، وقالوا في توجيه الاستدلال بها أن هذه الأدلة عامة في جميع الحقوق فتشمل الحدود والقصاص.
2- القرائن في قضايا الدماء يكتنفها من الغموض والاحتمالات ما لا يكتنف غيرها، فالقرينة القوية في دلالتها قد تفيد القتل، لكنها لا تفيدنا ما إذا كان القتل عمدا أو شبه عمد، أو خطأ، مع أن هذه الأنواع الثلاثة مختلفة في أحكامها، بل لو سلمنا أنها تفيدنا أن القتل كان عمدا فإنها لا تفيدنا هل كان القتل دفاعا عن النفس، أو العرض، أو المال، أو كان غيلة وظلما، إلى غير ذلك من الاحتمالات، وعلى هذا فلا تصلح أن تكون وسيلة إثبات في القصاص؛ لأنه كالحدود يدرأ بالشبهات.
ثانيا: النكول عن اليمين في جرائم الاعتداء على الأطراف دليل على أن الناكل إما مقر بالجريمة، أو باذل، أي: سمحت نفسه وأباح جسمه للعقوبة، وإلا لحلف قياما بالواجب عليه ودفعا للضرر عن نفسه.
مناقشة هذا الدليل:
أجيب عن هذا الدليل بأن القضاء بالنكول في مسائل الدماء قضاء بقرينة ضعيفة؛ لأنه كما يحتمل أن يكون المدعى عليه قد امتنع عن اليمين احترازا عن اليمين الكاذبة، يحتمل أن يكون امتناعه تورعا عن اليمين الصادقة، ويحتمل أيضًا أن يكون بسبب الاشتباه، والقضاء بالقرينة وبخاصة الضعيفة لا يجوز في مسائل الدماء؛ لأنه يجب الاحتياط فيها أكثر من غيرها
أدلة المانعين لإثبات القصاص بالقرينة:
أولا: ما روي عن سهل بن أبي حثمة قال: انطلق عبد الله بن سهل، ومحيصة بن مسعود إلى خيبر وهو يومئذ صلح، فتفرقا، فأتى محيصة إلى عبد الله بن سهل وهو يتشخط في دمه قتيلا، فدفنه، ثم قدم المدينة، فانطلق عبد الرحمن بن سهل، ومحيصة وحويصة ابنا مسعود إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فذهب عبد الرحمن يتكلم، فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم: "كبر، كبر" ، وهو أحدث القوم، فتكلما، قال: "أتحلفون وتستحقون قاتلكم أو صاحبكم"؟ , فقالوا: وكيف نحلف ولم نشهد، ولم نر؟ قال: "فتبرئكم يهود بخمسين يمينا"، فقالوا: كيف نأخذ أيمان قوم كفار؟ فعقله النبي -صلى الله عليه وسلم- من عنده.
وجه الاستدلال بهذا الحديث أنه دل على أن دعوى القتل لا تثبت إلا بشاهدين أو بالقسامة إذا لم يوجد الشاهدان، وهذا ينفي أن القرينة وسيلة إثبات فيها.
ثانيا: الاحتياط في الدماء مثل الاحتياط في الحدود بل أكثر منها وأولى، ولما كانت القرائن في الدماء في كثير من الحالات يكتنفها الغموض والإبهام، فإن هذا يعد شبهة يجب أن تكون دارئة للقصاص؛ لأنه يدرأ بالشبهات كما تدرأ بها الحدود.
الرأي الراجح:
يغلب على الظن أن ما يراه الجمهور -وهو عدم القضاء بالقرينة في القصاص- هو الرأي الراجح، وأقوى ما يسند هذا الرأي هو أن القرينة في كثير من الحالات يكتنفها الغموض والإبهام، وهذا شبهة والقصاص يدرأ بالشبهات، وهذا دليل قوي، وأما ما استند إليه القائلون بأن القرينة تصلح أن تكون وسيلة إثبات في القصاص، فقد ضعف من قبل المخالفين، ولكن ينبغي أن نذكر ما قاله بعض العلماء المعاصرين, وهو أنه إذا كانت القرينة قاطعة بحيث لا تكون محتملة لأدنى شك، فإنها تكون وسيلة إثبات في جرائم القتل كما لو وجدت بصمات المتهم على السكين التي تمت بها جريمة القتل لكن بشرط، وهو إذا لم يستطع المتهم أن يضعف من دلالة هذه القرينة فيورث شبهة تنقذه من عقوبة القصاص، لكن هذا الرأي محل نظر.
المطلب الثالث: إثبات عقوبة الإعدام بالقرائن في القانون
القرينة في القانون : هي الصلة الضرورية التي ينشئها القانون بين وقائع معينة, أو هي نتيجة يتحتم على القاضي أن يستخلصها من واقعة معينة.
تعرف القرينة: استنباط واقعة مجهولة من واقعة معلومة, وهي من أدلة الإثبات المقبولة
في المسائل الجزائية.
تعريف القرينة القضائية: هذه القرائن تعتمد الى حد كبير على فطنه القاضي ودقه استنتاجه ولهذا كانت القرائن القضائية غير قاطعه في دلالتها وجاز إثبات ما يخالفها بجميع طرق الاثبات .
فلا لوم على المحكمه في تكوين عقيدتها من أقوال شهود سمعوا في قضيه اخرى ان هي أخذت بهذه الاقوال كقرينه ، ولا لوم عليها اذا اعتبرت أقوال الشهود الذين استمع اليهم الخبير دون تحليفهم اليمين قرينه ضمن قرائن اخرى ثبت عليها حكمها ، وللقاضي ان يستنبط القرينه التي يعتمد عليها من اي تحقيق قضائي او اداري او شهاده شاهد يؤد اليمين .
الفرق بين القرائن القضائية والقرائن القانونية :
ان القرائن القضائية من عمل القاضي، فالتقدير الذي يعطيه للدلائل هو وحده الذي يمنحها قوة معينة في الاثبات، اما القرائن القانونية فان القانون هوا لذي يحدد الدلائل التي ترتبط بها القرينة والقوة الثبوتة للقرينة، ويتضاءل دور القاضي الى الحد الادنى المتمثل في تطبيق قاعدة الاثبات القانونية على النزاع الذي هو مكلف بحسمه.
2- تعد القرينة القضائية طريقاً للإثبات، في حين ان القرينة ليست طريقاً للإثبات، بل هي اعفاء منه او كما نصت المادة (98 / ثانياً) بأنها تغني من تقررت لمصلحته عن اي دليل آخر من ادلة الاثبات
3- تقوم القرينة القانونية على الراجح الغالب الوقوع ومقررة في صيغة عامة مجردة، لذلك يقتضي جواز اثبات عكسها في كل حالة معينة. في حين ان القرائن القضائية دلالتها غير قطعية فتقبل اثبات العكس بصورة دائمة وفي جميع الأحوال.
4- قيد المشرع قبول القرينة القضائية في الاثبات، فجعلها مساوية لقوة الشهادة في الاثبات، وعلى هذا نصت المادة (102 / ثانياً) من قانون الاثبات. في حين ان القرينة القانونية تعفى من الاثبات.
دور القرائن القضائية في الاثبات
القرائن القضائية هي دليل كامل تصلح لأن يستمد منها القاضي اقتناعه الذي يعتمد عليه في حكمه, وهذا يعني أن الإدانة من الممكن أن تبنى على قرائن فحسب, ولا يخضع قرار محكمة الموضوع للرقابة في هذا الخصوص إذا كان اعتماد المحكمة على القرينة مستخلص استخلاصا سائغا.
فلا رقابة لمحكمة التمييز على محكمة الموضوع في استخلاص القرائن, ولكن يجب على محكمة الموضوع أن تعدد القرائن, وتذكر هذه القرائن التي اعتمدتها في إصدار الحكم والا كان قرارها حريا بالنقض.
وقد جاء في قرار محكمة التمييز بصفتها الجزائية رقم (320/2002) (هيئة خماسية) تاريخ منشورات عدالة 2002/4/18.
قول محكمة الاستئناف أن (ما ورد على لسان المتهم من أدلة وقرائن) . دون أن تبين ما هي هذه الأدلة, والقرائن يجعل قرارها مشوبا بالقصور في التسبيب والتعليل.
فلا يصلح أن تذكر المحكمة الواقعة التي استنتجتها, وتحكم عليها دون أن تبين مصدر الواقعة وطريقة استنتاجها ووصولها إلى هذا الاستنتاج. وفي النهاية فإن القرينة القضائية هي دليل غير مباشر يصلح لبناء حكم جزائي عليه ولو كان دليلا كبير .
الخلاصة والنتائج:
مر معنا آنفا مفهوم الإثبات من ناحية أنه إخراج الشيء من العدم إلى الوجود ونحن بهذا الصدد نتكلم عن اخراج الأحكام شرعية كانت او قانونية , وتكلمنا عن مفهوم القرائن في اللغة حيث انها الدلالة على الشيء لشدة مصاحبته له , ولا يخرج المعنى الشرعي عن المعنى اللغوي كثيرا حيث عرفها الزرقا انها كل أمارة ظاهرة تقارن شيئاً خفياً فتدل عليه, وتكلمنا عن مشروعية القرائن وانقسام الفقهاء الى قسمين احدهم اعتبرها دليل اثبات والبعض الآخر لم يعتبرها , وسقنا أدلة ومناقشات الفريقين , ورجحنا مذهب القائلين بأنها وسيلة من وسائل الإثبات .
ثم بينا تاليا أنواع القرائن من حيث دلالتها على اليقين من عدمه , وذكرنا على ذلك امثلة , وطرقنا في المبحث التالي ثبوت اثبات عقوبة القتل بالقرائن في عقوبات الحدود التي تصل الى القتل مثل الزاني المحصن و الحرابة و الردة على رأي المالكية و ترك الصلاة على رأي الشافعية وجماعة من الحنابلة وفصلنا المقال كثيرا , وخلصنا الى ان أي عقوبة تصل الى القتل لا تثبت بالقرائن وحدها بالفقه الإسلامي وأقوى دليل يمنعها من ذلك حديث ادرؤوا الحدود بالشبهات , والقرينة مها كانت قوية إلا أنه يعتريها شبهة تمنع من إقامة الحد أو إيقاع القصاص بالجاني , بل يمكن ان تعضد هذه القرائن أدلة أقوى منها في الاثبات كالإقرار أو الشهادة ونحوها.
واخيرا كان حديثنا يدور حول اثبات العقوبة بالقرائن في القانون , فبينا الفرق بين القرائن القانونية الثابتة بنصوص الدستور و القرائن القضائية التي يعتمدها القاضي من خلال ظروف كل قضية , وبينا مدى حجية القرائن القضائية في إثبات الجريمة , فتوصلنا الى ان القانون يعتمد على القرائن كدليل مستقل يمكن به اثبات العقوبات , ولم يستثن القانون من العقوبات أي عقوبة , فبذلك تدخل عقوبة الإعدام ضمن العقوبات التي يمكن اثباتها بالقرائن القضائية في القانون.
إلا أن هنالك جدلا دوليا حول تطبيق عقوبة الإعدام رغم اثباتها بالأدلة القاطعة والبراهين الناصعة , فقد قدمت الأمم المتحدة قرارًا خلال الجلسات الاثنين وستين للجمعية العمومية عام 2007 تنادي فيه بالحظر العالمي لتطبيق عقوبة الإعدام. وقد صدقت اللجنة الثالثة التي تتناول قضايا حقوق الإنسان بمعدل 99 صوت مؤيد إلى 52 معارض مع 33 حالة امتناع في صالح قرار 15 نوفمبر 2007، وقد رفع إلى الجمعية للتصويت عليه في 18 ديسمبر. وفي 2008 أيضًا، تبنت أغلبية الولايات قرارًا ثانيًا ينادي بتعليق تطبيق العقوبة، وذلك في الجمعية العمومية للأمم المتحدة (اللجنة الثالثة) 20 نوفمبر. وقد أعطت 105 دولة أصوتها في صالح مشروع القرار، وصوتت ضده 48 دولة وامتنعت 31 دولة أخرى. وقد قدمت بعض التعديلات من قبل أقلية صغيرة من الدول المؤيدة لعقوبة الإعدام، ولكن تم رفضها جميعًا. وفي 2007، أصدرت الجمعية العمومية قرارًا غير ملزم (وقد لاقى 104 صوت مؤيد و54 معارض و29 امتناع) وطلبت الجمعية العمومية من الدول الأعضاء أن تعلق تطبيق العقوبة مع دراسة إلغاء عقوبة الإعدام.
تنص المادة الثانية من ميثاق الحقوق الأساسية للاتحاد الأوروبي على منع عقوبة الإعدام في الاتحاد الأوروبي.
وقد ثمة عدد من الاتفاقيات على المستوى الإقليمي يحظر استخدام عقوبة الإعدام، من بينها البروتوكول السادس (الذي يحظر استخدام هذه العقوبة في وقت السلم) والبروتوكول الثالث عشر (الذي يحظر استخدامها في جميع الأوقات) من الاتفاقية الأوروبية لحماية حقوق الإنسان. كما أن البروتوكول الثاني من الاتفاقية الأمريكية لحماية حقوق الإنسان قد حظر اللجوء إلى هذا النوع من العقوبات، على الرغم من أن هذه الاتفاقية لم يتم التصديق عليها في جميع دول الأمريكتين، لا سيما كندا والولايات المتحدة. علاوة على ذلك، لا تشترط معظم الاتفاقيات الدولية نافذة المفعول حظر استخدام عقوبة الإعدام في حالة الجرائم الكبرى، مثل العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية. فهذه الاتفاقية – بالإضافة إلى عدد آخر من الاتفاقيات المماثلة – بدلاً من أن تحظر عقوبة الإعدام، وضعت بروتوكولاً اختياريًا يحظر تنفيذها ويشجع على إلغائها.
وقامت العديد من الهيئات الدولية بجعل إلغاء عقوبة الإعدام (خلال وقت السلم) شرطًا للاشتراك في عضويتها، لعل أبرزها الاتحاد الأوروبي ومجلس أوروبا. إن كلاً من الاتحاد الأوروبي ومجلس أوروبا على استعداد لقبول موراتوريوم (تعليق تطبيق) عقوبة الإعدام كإجراء مؤقت. وبالتالي، على الرغم من أن روسيا تعتبر إحدى الدول الأعضاء في مجلس أوروبا، وتطبق عقوبة الإعدام حسب قوانينها، فإنها لم تطبقه بشكل علني منذ انضمامها لعضوية المجلس. وثمة العديد من الدول الأخرى على الرغم من إلغائها عقوبة الإعدام قانونًا خلال وقت السلم وفعليا في جميع الأوقات، فإنها لم تصدق بعد على البروتوكول رقم 13، وبالتالي ليست ملزمة على المستوى الدولي أن تمتنع عن تطبيق عقوبة الإعدام في وقت الحرب أو في حالة التهديد الوشيك بالحرب (مثل أرمينيا ولاتفيا وبولندا وإسبانيا تعتبر إيطاليا آخر دولة صدقت على هذا البروتوكول في 3 مارس 2009. شهدت تركيا مؤخرًا تعديلاً في نظامها القانوني، وذلك سعيًا منها وراء الانضمام لعضوية الاتحاد الأوروبي. كانت تركيا قد فرضت وقف تطبيق عقوبة الإعدام فعليًا حيث كان آخر حكم بالإعدام لديها في عام 1984. ثم ألغت بعد ذلك عقوبة الإعدام من القانون المستخدم في وقت السلم، وذلك في أغسطس من عام 2000. وفي مايو 2004، قامت تركيا بتعديل الدستور كي تلغي تطبيق عقوبة الإعدام في جميع الأوقات. وصدّقت على البروتوكول الثالث عشر من الاتفاقية الأوروبية لحماية حقوق الإنسان في فبراير 2006. نتيجة لذلك، أضحت أوروبا قارة لا تطبق عقوبة الإعدام. كما أن جميع الدول – باستثناء روسيا التي أوقفت تطبيق عقوبة الإعدام – قد صدقت على البروتوكول السادس من الاتفاقية الأوروبية لحماية حقوق الإنسان، وذلك فيما عدا بيلاروسيا التي لم تشترك في عضوية مجلس أوروبا. وقد حاولت الجمعية البرلمانية لمجلس أوروبا إقناع الدول المراقبة التي لم تزل تطبق عقوبة الإعدام وكذلك الولايات المتحدة واليابان كي تقوم بإلغاء هذا النوع من العقوبات وإلا فقدت عضويتها كدولة مراقبة. وعلاوة على قيام الاتحاد الأوروبي بحظر استخدام عقوبة الإعدام بالنسبة للدول الأعضاء المشتركة فيه، فقد حظر أيضًا تسليم المعتقلين في حالة إذا كانت الدولة التي ستتسلمهم سوف تطبق عليهم حكم الإعدام. ومن بين الهيئات غير الحكومية التي تعارض تطبيق عقوبة الإعدام، تتميز منظمة العفو الدولية ومراقبة حقوق الإنسان بموقفهما المعارض. وقد قامت العديد من مثل هذه الهيئات بالإضافة إلى النقابات العمالية والمجالس المحلية ونقابات المحامين بتكوين تحالف عالمي لمناهضة تطبيق عقوبة الإعدام وذلك في عام 2002م .
تعليقات
إرسال تعليق
علق هنا...