انعكاسات التكفير على الأحوال الشخصية

ورقة بحثية  بعنوان
أقوال العلماء في التكفير , وانعكاسات التكفير على الأحوال الشخصية




إعداد الطالب: معتز السرطاوي




مقدمة
بسم الله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله ومن والاه
عصفت في الفترة الأخيرة ظاهرة التكفير في المجتمع المسلم , وساهم في انتشارها عدة عوامل من الإعلام إلى الجهل إلى قلة الوعي الديني والثقافي والإجتماعي , وكل تلك العوامل ساهمت في نشر فكر متطرف بين أوساط الشباب المسلم , فبت ترى الكثير من الشباب على مواقع التواصل الإجتماعي يطلق أحكام التكفير والتبديع وغيرها دون ترو منه أو دراية .
 وبإشارة من الدكتور أحمد القضاه شرعت بالبحث عن هذه الظاهرة وما لها من تأثير على الأحوال الشخصية
فبدأت بالتعريف بالظاهرة والتأصيل لها عبر التاريخ , ثم تحدثت عن أنواع الكفر , وبعدها تحدثت عن شروط التكفير وموانعه , وآراء العلماء في ذلك , وهذا برأيي ما يغيب عن أذهان كل الشباب في عصرنا هذا الذي استسهل فكرة إطلاق الأحكام على الناس .
ثم شرعت في الحديث عن آثار التكفير على موضوعات الأحوال الشخصية, الذي هو صلب بحثي
من حيث آثار الردة على الزواج, فحاولت جاهدا الإجابة على أسئلة هي في صميم موضوع الأحوال الشخصية , وقد قسمتها في البحث إلى مسائل وكل مسئلة تعبر عن سؤال بحاجة إلى الإجابة عليه, وكانت المسائل كالتالي مسألة هل الفرقة بعد الدخول تقع طلاقا أم فسخ؟ومسألة هل تقع الفرقة في الحال ، أم تتوقف الفرقة على انقضاء العدة؟ ومسألة في ثبوت المهر للزوجة في حال الردة, ومسألة هل لزوجة المرتدّ عدّة.
ثم تطرقت للحديث عن آثار الردة على الميراث وبحثت فيه ميراث أحد الزوجين إذا ارتد الآخر, وميراث المرتد إذا مات زوجه أو قربيه المسلم , وميراث المرتدين من بعضهم البعض, وميراث المرتد من أهل الملة التي أعتنقها.
وأخيرا وبشكل مقتضب تحدثت عن آثار الردة على ولد المرتد.
ولقد بذلت جهدي في جمع أقوال المذاهب الأربعة من أمهات كتب المذاهب  في كل المسائل ونقلت القول الراجح ونسبته إلى مرجحه , فما كان بي من نعمة فمن الله وما كان من نقص فمن الشيطان , وأعوذ بالله أن أكون جسرا يعبر به الناس إلى الجنة وألقى به في النار.



وقد تناولت في هذا الواجب جملة من العناوين وقسمتها حسب الخطة  الآتية:
الفصل الأول في تعريف التكفير ومنشؤه.
أولا :التعريف اللغوي و الإصطلاحي  للتكفير :-
ثانيا: أصل ظاهرة التكفير:
الفصل الثاني في أنواع الكفر
أ‌. الكفر الأصلي
ب‌. الكفر العارض فيمن كان مؤمنا وارتد عن الإسلام وهو على أنواع
مسألة فيمن قال لأخيه يا كافر:
الفصل الثالث في شروط التكفير وموانع التكفير:
أولا: شروط التكفير :
ثانيا: موانع التكفير
مسألة: شروط الإكراه  (أو متى يكون الإكراه عذرًا؟)
الفصل الرابع : آثار التكفير على موضوعات الأحوال الشخصية.
أولا : آثار الردة على الزواج.
أ‌. الردة قبل الدخول
ب‌. الردة بعد الدخول.
مسألة(1): هل الفرقة بعد الدخول تقع طلاقا أم فسخ
مسألة(2): وإن كانت الردة بعد الدخول ، فهل تقع الفرقة في الحال ، أم تتوقف الفرقة على انقضاء العدة؟
مسألة(3): في ثبوت المهر للزوجة في حال الردة:
مسألة(4) :عدّة زوجة المرتدّ
ثانيا :آثار الردة على الميراث
وبحثت فيه ميراث أحد الزوجين إذا ارتد الآخر, وميراث المرتد إذا مات زوجه أو قربيه المسلم , وميراث المرتدين من بعضهم البعض, وميراث المرتد من أهل الملة التي أعتنقها.
ثالثا : آثار الردة على ولد المرتد.
الفصل الأول في تعريف التكفير ومنشؤه.
أولا :التعريف اللغوي و الإصطلاحي  للتكفير :-
تعريف الكفرفي اللغة:  بمعنى الستر و التغطية , يقال لمن غطى ذرعه بالثوب : قد كفر درعه و يقال للمزارع : " كافرآ " لإنه يغطي البذر بالتراب , و منه سمي الكفر الذي هو ضد الإيمان " كفرآ " لإن فيه تغطية للحق بجحد أو غيره , و قيل : سمي الكافر " كافرآ " لإنه قد غطى قلبه بالكفر"[1].
الكفر في الإصطلاح: هو إعتقادات و أقوال و أفعال جاء في الشرع ما يدل أن من وقع فيها ليس من المسلمين و قد حكى جمع من أهل العلم إجماع العلماء على أن الكفر يكون بمجرد القول أو الفعل, يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :( الكفر: عدم الإيمان - باتفاق المسلمين- سواء اعتقد نقيضه وتكلم به، أو لم يعتقد شيئاً ولم يتكلم)[2]
على ذلك فلفظة ( التكفير) مصدر من الفعل المضعف (كفّر) , ومعناه : نسبة الإنسان المسلم إلى الكفر .
ثانيا: أصل ظاهرة التكفير:
إن أصل هذه الظاهرة أساسآ هم الخوارج: يقول الشهرستاني: "الخوارج جمع خارج، وخارجي اسم مشتق من الخروج، وقد أطلق علماء اللغة كلمة الخوارج في آخر تعريفاتهم اللغوية في مادة ((خرج)) على هذه الطائفة من الناس؛ معللين ذلك بخروجهم عن الدين أو على الإمام علي، أو لخروجهم على الناس"[3], ويقول الخوارج  : (هم كل من خرج على الإمام الحق الذي اتفقت الجماعة عليه يسمى خارجياً، سواء كان الخروج في أيام الصحابة على الأئمة الراشدين أو كان بعدهم على التابعين لهم بإحسان والأئمة في كل زمان)[4] .
إذن أصل ظاهرة التكفير هم الخوارج و الخوارج هم الفئة التي خرجت على الامام علي بن ابي طالب رضي الله عنه بعد ان كانت تحارب معه، و يغلب على هذه الفرقة التطرف في السلوك، والتزّمت في الدين والتحجّر في الفكر، تكونت بعد معركة صفين، بسبب رفضها لنتيجة التحكيم، واصبحت العبارة التي صاغها أحدهم ( لا حكم الا لله ) شعار هذه الطائفة، وكان تأسيسها في منتصف القرن الأول الهجري[5].



الفصل الثاني في أنواع الكفر
أ. الكفر الأصلي:  الكفار كفراً أصلياً ، وهم كل من لم يدخل في دين الله الذي بعث الله به نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى والدهريين والوثنين وغيرهم من أمم الكفر الذين قال الله تعالى فيهم  (قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ "[6].
والذين قال الله فيهم ‏:‏ ‏(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً  أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا)[7].
وهؤلاء الكفار كفراً أصلياً لا يفرق في الحكم عليهم بالكفر ، سواء كانوا أفراداً أو جماعاتٍ ، أحياءً وأمواتاً كما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة ‏.‏
 ب.الكفر العارض فيمن كان مؤمنا وارتد عن الإسلام وهو على أنواع[8]:
1) كفر الجحود والتكذيب  : وهذا الكفر تارة يكون تكذيباً بالقلب ـ وهذا الكفر قليل في الكفار ـ وتارة يكون تكذيبا باللسان أو الجوارح وذلك بكتمان الحق وعدم الانقياد له ظاهرا مع العلم به ومعرفته باطنا ، ككفر اليهود بمحمد صلى الله عليه وسلم فقد قال الله تعالى عنهم : ( فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به ) [9]وقال أيضا : ( وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون )[10]  وذلك أن التكذيب لا يتحقق إلا ممن علمَ الحقَّ فرده ولهذا نفى الله أن يكون تكذيب الكفار للرسول صلى الله عليه وسلم على الحقيقة والباطن وإنما باللسان فقط ؛ فقال تعالى : ( فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ) [11]وقال عن فرعون وقومه : ( وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً) [12]
   ويلحق بهذا الكفر كفر الاستحلال فمن استحل ما عَلِم من الشرع حرمته فقد كذَّب  
   الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به ، وكذلك من حَرَّم ما عَلِم من الشرع حِله .
ويقول ابن تيمية رحمه الله : ((والكفر تارة يكون بالنظر إلى عدم تصديق الرسول والإيمان به، وتارة بالنظر إلى عدم الإقرار بما أخبر به، ثم مجرد تصديقه في الخبر، والعلم بثبوت ما أخبر به، إذا لم يكن معه طاعة لأمره، لا باطناً ولا ظاهراً، ولا محبة لله ولا تعظيماً له، لم يكن ذلك إيماناً ))[13]
2)  كفر الإعراض والاستكبار : ككفر إبليس إذ يقول الله تعالى فيه : ( إِلا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ) [14]
 وكما قال تعالى : ( وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) [15]فنفى الإيمان عمن تولى عن العمل ، وإن كان أتى بالقول . فتبين أن كفر الإعراض هو : ترك الحق لا يتعلمه ولا يعمل به سواء كان قولا أو عملا أو اعتقادا . يقول تعالى : ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ ) [16]فمن أعرض عما جاء به الرسول بالقول كمن قال لا أتبعه ، أو بالفعل كمن أعرض وهرب من سماع الحق الذي جاء به أو وضع أصبعيه في أذنيه حتى لا يسمع ، أو سمعه لكنه أعرض بقلبه عن الإيمان به ، وبجوارحه عن العمل فقد كفرَ كُفْر إعراض.
3)  كفر النفاق :وهو ما كان بعدم تصديق القلب وعمله ، مع الانقياد ظاهرا رئاء الناس ككفر ابن سلول وسائر المنافقين الذين قال الله تعالى عنهم : ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ .يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ .. الخ الآيات )[17].
4)  كفر الشك والريبة : وهو التردد في اتباع الحق أو التردد في كونه حقاً ، لأن المطلوب هو اليقين بأن ما جاء به الرسول حق لا مرية فيه ، فمن جوَّز أن يكون ما جاء به ليس حقا ًفقد كفر؛ كفر الشك أو الظن كما قال تعالى : ( وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً . وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لأجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنْقَلَباً . قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً . لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً)[18].



مسألة فيمن قال لأخيه يا كافر:
عن عبد الله بن دينار ، عن عبد الله بن عمر : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال : من قال لأخيه يا كافر ، فقد باء بها أحدهما"[19]
يقول ابن عبد البر : " أن الذنوب لا يكفر بها أحد، وهذا يبين لك أن قوله : «من قال لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما» أنه ليس على ظاهره، وأن المعنى فيه النهي عن أن يقول أحد لأخيه: كافر، أو يا كافر[20].
ويقول الشيخ ابن باز رحمه الله[21] : هذا لا أعرف صحته الآن ولكن معناه صحيح، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (من قال لأخيه: يا عدو الله، أو قال: يا كافر، فقد باء بها أحدهما)، يعني إذا لم يكن من قيل له ذلك صالحاً لها رجعت إلى من قالها، فلا يجوز للمسلم أن يكفر أخاه ولا يقول يا عدو الله ولا يا فاجر إلا بدليل، الذي رمى أخاه بالكفر وليس فيه ذلك رجع إليه كلامه، والمعنى: التحذير وليس معناه أنه كفر أكبر، بل معناه التحذير من هذا الكلام السيئ وأن صاحبه على خطر عظيم إذا قاله لأخيه، فينبغي حفظ اللسان وألا يتكلم إلا عن بصيرة.



الفصل الثالث في شروط التكفير وموانع التكفير:
أولا: شروط التكفير[22]:
1-                  ثبوت أن هذا القول أو الفعل أو الترك كفر بمقتضى دلالة الكتاب والسنة، فإذا لم يثبت أن هذا القول، أو الفعل، أو الترك كفر فلا يحل أن يحكم بأنه كفر لأن ذلك من القول على الله بغير علم وقد قال سبحانه: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾[23]
2-                    ثبوت قيام بالمكلف به، فلا يحل أن يرمى إنسان بالكفر لمجرد الظن قال تعالى: ﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً﴾[24]
3-                   بلوغ الحجة قال سبحانه: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ [25]، وقال سبحانه: ﴿وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [26]، وقال عز وجل: ﴿رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً﴾[27].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : " إن تكفير المعين وجواز قتله موقوف على أن تبلغه الحجة النبوية التي يكفر من خالفها، وإلا فليس من جهل شيئًا من الدين يكفر[28] ".
4- انتفاء موانع التكفير في حقه وسيأتي الحديث عنها.
5- العلم: فلا بد أن يكون عالماً بمخالفته التي وجب من خلالها أطلاق حكم الكفر عليه.
قال سبحانه: ﴿وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً﴾ [29].
وقال ابن القيم في بعد ذكره كفر من هجر فريضة من فرائض الإسلام أو أنكر صفة من صفات الله تعالى أو أنكر خبرًا أخبر الله به عمدًا، قال:" وأما جحد ذلك جهلًا أو تأويلًا يُعذر فيه صاحبه فلا يكفر صاحبه به "[30].



ثانيا: موانع التكفير
أ‌.        الجهل: فمن فعل مكفرًا جهلًا فإنه لا يحكم عليه بالتكفير المعين حتى ينتفي في حقه هذا المانع والموانع الأخرى.
 ويدل على هذا المانع: حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في قصة الرجل الذي لم يعمل خيرًا قط فأمر أولاده إذا مات أن يحرقوه ثم يذروا رماده في شديد الريح في البحر، وقال: "والله لئن قدر عليّ ليعذبني عذابا ما عذب به أحد " فغفر له. والحديث متفق عليه.
 قال شيخ الإسلام بعد ذكره لهذا الحديث: " فهذا رجل شك في قدرة الله وفي إعادته إذا ذُري، بل اعتقد أنه لا يُعاد، وهذا كفر باتفاق المسلمين، ولكن كان جاهلًا لا يعلم ذلك، وكان مؤمنًا يخاف الله أن يعاقبه، فغفر له بذلك "[31].
ب‌.   - الخطأ : وهو أن يقصد بفعله شيئاً فيصادف فعله غيرَ ما قصد ، كمن يريد رمي غزالٍ فيصيب إنساناً ، أو كمن يريد رمي كتاب كفر فيرمي كتاب الله جلَّ وعلا ، والأدلة على العذر بالخطأ كثيرة منها قوله تعالى : { وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ }  [32]ومن الأحاديث المشهورة في العذر بالخطأ ، قوله : صلى الله عليه وسلم : ( إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه"[33].
ت‌.   الإكراه : قال ابن حزم[34] : " والإكراه هو كل ما سمّي في اللغة إكراهًا، وعرف بالحس أنه إكراه، كالوعيد بالقتل ممن لا يؤمن منه إنفاذ ما توعد به، والوعيد بالضرب كذلك... "
فإذا قال المسلم أو فعل أمرًا مكفرًا مخرجًا من الملة وهو في ذلك مكرها على قتل أو ضرب يؤدي إلى إتلاف نفس أو نحوه فإنه يعذر بذلك ولا يكفر وإن كان قوله أو فعله مكفرًا ويدل على ذلك الحديث السابق:( إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)
وقال ابن العربي[35]: " لما سمح الله تعالى في الكفر به، وهو أصل الشريعة، عند الإكراه، ولم يؤاخذ به، حمل العلماء عليه فروع الشريعة، فإذا وقع الإكراه عليها لم يؤاخذه به ".
مسألة: شروط الإكراه[36] (أو متى يكون الإكراه عذرًا؟)
1- أن يكون المكره - بكسر الراء - قادرًا على تحقيق ما أوعد به، لأن الإكراه لا يتحقق إلا بالقدرة، فإن لم يكن قادرًا لم يكن للإكراه معنى ولا اعتبار.
2- أن يكون المكره - بفتح الراء - عاجزًا عن الدفع عن نفسه بالهرب أو الاستغاثة أو المقاومة أو نحو ذلك.
3- أن يغلب على ظنه وقوع الوعيد، إن لم يفعل ما طُلب منه.
4- أن يكون هذا الوعيد مما يستضر به المكره - بفتح الراء - ضررًا كثيرا كالقتل والضرب الشديد، وأما الشتم والسب فليس بإكراه رواية واحدة وكذلك أخذ المال اليسير.
ث‌.   والتأويل: هو أن يرتكب المسلم أمرًا كفريًا معتقدًا مشروعيته أو إباحته له لدليل يرى صحته أو لأمر يراه عذرًا له في ذلك وهو مخطئ في ذلك كله.
فِإذا اعتقد المسلم أو فعل أو قال أمرًا مخرجًا من الملة، وكان عنده شبهة تأويل في ذلك، وهو ممن يمكن وجود هذه الشبهة لديه، وكانت في مسألة يُحتملُ التأويل فيها، فإنه يُعذر بذلك، وحكى بعض العلماء إجماع أهل السنة على هذا المانع.
• قال الشافعي[37]: " لم نعلم أحدًا من سلف هذه الأمة يقتدى به ولا من التابعين بعدهم ردّ شهادة أحد بتأويل، وإن خطأه وضلله ورآه استحل فيه ما حرم عليه، ولا ردّ شهادة أحد بشيء من التأويل كان له وجه يحتمله، وإن بلغ فيه استحلال الدم والمال أو المفرط من القول ".



الفصل الرابع : آثار التكفير على موضوعات الأحوال الشخصية.
اتضح لنا مما سبق أن مسألة التكفير يجب الحذر منها والانتباه لها جيدا , وأن لذلك شروط وموانع يجب على كل من أقدم على هذا الحكم – أي الحكم بتكفير المسلمين- أن يعلمها ويعيها جيدا لكي لا يقع في التهلكة هو كذلك , وقد تجنب العلماء كثيرا مسألة التكفير لما لها من خطر , فكانوا لا يكفّرون إلا من ثبت كفره مثل الشمس في رابعة النهار .
ويجب التنبيه هنا إلى أمر في غاية الأهمية وهو :من هو الذي يصدر الحكم بالكفر ؟
 يقول شيخ الإسلام ابن تيمية (
"فليس لأحدٍ أن يُكفِّر أحدًا من المسلمين، وإن أخطأ وغلط، حتَّى تُقام عليه الحجَّة، وتُبيَّن له المحجَّة، ومَن ثبت إيمانُه بيقينٍ، لم يَزُلْ ذلك عنه بالشَّكِّ، بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجَّة وإزالة الشبهة)[38], ولأن هذا الحكم متعلق بأحكام أخرى ( كفرقة زوجته , وعدم دفنه في مقابر المسلمين وغيرها) أرى أنه يجب أن يرفع أمر من نطق بالكفر أو صدر منه فعل مكفّر إلى الحاكم أو من ينوب منابه وهم القضاه , والله أعلم .
يقول ابن حجر الهيثمي : "(وتجب استتابة المرتد والمرتدة لاحترامهما بالإسلام قبل وربما عرضت شبهة بل الغالب أنها لا تكون عن عبث محض, وللسيد قتل قنه والقتل هنا بضرب العنق دون ما عداه ولا يتولاه إلا الإمام أو نائبه"[39]
وكذلك تظهر أهمية الحديث عن هذا الحكم لما ينبني عليه من أحكام أخرى على الشخص المكفّر منها ما يتعلق بالأمور الإعتقادية , ومنها ما يتعلق بالحقوق الإجتماعية , ومنها ما يتعلق بقانون الأحوال الشخصية وحقوق الزوجية  وهذا ما سنتحدث عنه في هذا الفصل ,
وسنقتصر في الحديث هنا عن الشخص الذي خرج من الملة بقضاء القاضي بأدلة قاطعة حاكمة بكفره  وهو ما يسمى (المرتد).

أولا : آثار الردة على الزواج.
أ‌.       الردة قبل الدخول
قال ابن قدامة رحمه الله : "إذا ارتد أحد الزوجين قبل الدخول , انفسخ النكاح , في قول عامة أهل العلم , إلا أنه حكي عن داود , أنه لا ينفسخ بالردة , لأن الأصل بقاء النكاح ، ولنا : قول الله تعالى : (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ) وقال تعالى : (فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ) ولأنه اختلاف دين يمنع الإصابة [يعني : الجماع] , فأوجب فسخ النكاح , كما لو أسلمت تحت كافر"[40] .
ويقول الجزيري :"عرفت أن المهر يتأكد بالدخول والخلوة فلا يقبل السقوط أما قبل الدخول والخلوة فإن ارتدت هي لم يكن لها شيء وإن ارتد هو كان لها نصف المهر إذا سمى لها مهرا فإذا لم يسم لها مهرا كانت لها المتعة"[41].
جاء في الموسوعة الفقهية: ردة أحد الزوجين موجبة لانفساخ عقد النكاح عند عامة الفقهاء، بدليل قوله تعالى: لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن. وقوله سبحانه: ولا تمسكوا بعصم الكوافر. فإذا ارتد أحدهما وكان ذلك قبل الدخول انفسخ النكاح في الحال ولم يرث أحدهما الآخر[42]. اهـ.
وقد نقل عن الحنابلة قولهم: "إذا ارتد أحد الزوجين قبل الدخول انفسخ النكاح فورًا وتنصّف مهرها إن كان الزوج هو المرتد، وسقط مهرها إن كانت هي المرتدة[43].
ب‌.  الردة بعد الدخول.
مسألة( 1): هل الفرقة بعد الدخول تقع طلاقا أم فسخ
وقال الحنفية : إباء الإسلام وردة أحد الزوجين إذا حصل من المرأة فهو فسخ إجماعا وإن كان من جهته فهو فسخ أيضا عند أبي يوسف في كليهما وفي قول محمد كلاهما طلاق وفي قول أبي حنيفة الردة فسخ وإباء الزوج الإسلام طلاق[44].
وقال الإمام عبد الله بن أحمد النسفي : ” أَجْمَعَ أَصْحَابُنَا عَلَى أَنَّ الرِدة تُبْطِلُ عِصْمَةَ النِّكَاحِ وَتَقَعُ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا بِنَفْسِ الرِّدةِ ”[45] اهـ
وقال الشيخ عبد الغني الغنيمي الدمشقي الميداني الحنفي ما نصه : ” وإذا ارتد أحد الزوجين عن الإسلام وقعت الفرقة بينهما بغير طلاقٍ “[46]اهـ
وقال المالكية في المشهور: إذا ارتد أحد الزوجين المسلمين كان ذلك طلقة بائنة، فإن رجع إلى الإسلام لم ترجع له إلا بعقد جديد، ما لم تقصد المرأة بردتها فسخ النكاح، فلا يتفسخ، معاملة لها بنقيض قصدها[47].
وقال الشافعية: إذا ارتد أحد الزوجين المسلمين فلا تقع الفرقة بينهما حتى تمضي عدة الزوجة قبل أن يتوب ويرجع إلى الإسلام، فإذا انقضت بانت منه، وبينونتها منه فسخ لا طلاق، وإن عاد إلى الإسلام قبل انقضائها فهي امرأته[48].

مسألة(2): وإن كانت الردة بعد الدخول ، فهل تقع الفرقة في الحال ، أم تتوقف الفرقة على انقضاء العدة؟ ففيه خلاف بين الفقهاء.
فمذهب الشافعية والصحيح عند الحنابلة أنه إن عاد إلى الإسلام قبل انقضاء عدة زوجته فنكاحه باقٍ كما هو ، وإن انقضت العدة قبل رجوعه للإسلام وقعت الفرقة ، وليس له أن يرجع إلى زوجته إلا بعقد جديد ومذهب الحنفية والمالكية أن الردة توجب الفرقة في الحال ، ولو كان ذلك بعد الدخول[49].
جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية[50] :" ذهب الحنفية والمالكية إلى أن الردة سبب للفرقة بين الزوجين فورا ، واختلفوا في كيفية الفرقة ، فقال الحنفية : إذا ارتد أحد الزوجين المسلمين بانت منه امرأته مسلمة كانت أو كتابية ، دخل بها أو لم يدخل ، ويكون ذلك فسخا عاجلا لا يتوقف على قضاء .
وعند الشافعية لا تقع الفرقة بينهما فورا حتى تمضي عدة الزوجة قبل أن يتوب ويرجع إلى الإسلام ، فإذا انقضت العدة وقعت الفرقة ، وإن عاد إلى الإسلام قبل انقضاء العدة فهي امرأته .
وذهب الحنابلة إلى أن الردة إن كانت قبل الدخول يفرق بين الزوجين فورا ، وإن كانت بعد الدخول ففي رواية تنجز الفرقة ، وفي رواية أخرى تتوقف على انقضاء العدة .
قال ابن قدامة: "  وإن كانت الردة بعد الدخول فهل تتعجل الفرقة، أو تقف على انقضاء العدة؟ على روايتين انتهى[51].
وذهب بعض العلماء ـ واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ـ إلى أن الزوجة بعد انقضاء عدتها تملك أمر نفسها ، فإن شاءت أن تفسخ النكاح فلها ذلك ، وإن شاءت أن تنتظر زوجها لعله يرجع إلى الإسلام فلها ذلك أيضاً[52] ، وهذا القول الأخير هو ما ناختاره الشيخ ابن عثيمين ويرى أنه أقرب الأقوال إلى الأدلة الشرعية[53] .
والحاصل أن المذاهب الحنفية والشافعية والحنابلة تعتبر الردة فسخًا لا طلاقًا ، والمالكية تعتبره طلاقا بائنا ,و اختلفوا بعد ذلك متى تحصل الفرقة؟ هل تحصل بالردة؟ أي: فور حصول الردة، فلا تحل له إن تاب إلا بعقد جديد وهذا مذهب الحنفية والمالكية ، أو لا تحصل الفرقة إلا إذا انقضت العدة ولم يتب ، وهو رأي الشافعية , والحنابلة لهم رأيين على المذهبين  ، وبين ما إذا حصلت الردة قبل الدخول فتحصل الفرقة حالًا على الراجح عند الجمهور ، - و التفريق بين الفرقة الحاصلة بسبب الردة قبل الدخول أو بعده-  هو مذهب الشافعية، وإحدى الروايتين عند الحنابلة.

مسألة(3): في ثبوت المهر للزوجة في حال الردة:
قال الحنفية: إن كانت الرِّدة قبل الدُّخول، وكان المرتد هو الزَّوج، فلها نصف المسمَّى أو المتعة، وإن كانت هي المرتدة فلا شيء لها, وإن كان بعد الدُّخول فلها المهر كله سواء كان المرتد الزَّوج أو الزَّوجة[54].
وقال الحنابلة: إذا ارتد أحد الزَّوجين قبل الدُّخول انفسخ النِّكاح فوراً وتنصف مهرها إن كان الزَّوج هو المرتد، وسقط مهرها إن كانت هي المرتدة"[55].
وقال الماوردي في شرح مختصر المزني على المذهب الشافعي : "فإن كان المرتد منهما هو الزوج وكان قبل الدخول، فقد بانت منه ولزمه نصف المهر، وإن كان بعده فعليه جميع المهر والنكاح موقوف على انقضاء العدة، ولها النفقة في زمان عدتها؛ لأنها على دينها المأمورة به والتحريم من قبل الزوج ويقدر على تلافيه واستدراكه بالإسلام، وإن ارتدت الزوجة فإن كان قبل الدخول فلا مهر لها، وإن كان بعد الدخول فلها جميع المهر ولا نفقة لها في زمان الردة قولا واحدا؛ لأن التحريم من قبلها بما لا يقدر الزوج على تلافيه، فكان أسوأ حالا من النشوز فإن لم تسلم حتى مضت العدة بطل النكاح، وإن أسلمت قبل انقضائها كانا على النكاح واستحقت نفقة المستقبل بعد الإسلام. فلو كان الزوج غائبا عنها وقت إسلامها وجبت النفقة عليه بإسلامها[56].


مسألة(4) :عدّة زوجة المرتدّ.
- ذهب الفقهاء[57] إلى وجوب عدّة زوجة المرتدّ بعد الدّخول أو ما في حكمه بسبب التّفريق بينهما، فإن جمعها الإسلام في العدّة دام النّكاح، وإلاّ فالفرقة من الرّدّة وعدّتها تكون بالأشهر، أو بالقروء، أو بالوضع كعدّة المطلّقة‏.‏
- ولو مات المرتدّ أو قتل حدّاً وامرأته في العدّة، فقد اختلف الفقهاء على قولين‏:‏
القول الأوّل‏:‏ ذهب المالكيّة والشّافعيّة وأبو يوسف من الحنفيّة إلى أنّه لا يجب عليها إلاّ عدّة الطّلاق، لأنّ الزّوجيّة قد بطلت بالرّدّة، وعدّة الوفاة لا تجب إلاّ على الزّوجات‏.‏
 قال الكاساني موجها قول أبي يوسف:(أن الشرع إنما أوجب عدة الوفاة على الزوجات وقد بطلت الزوجية بالطلاق البائن إلا أنا بقيناها في حق الإرث خاصة لتهمة الفرار ممن ادعى بقاءها في حق وجوب عدة الوفاة فعليه الدليل)[58]
القول الثّاني‏:‏ ذهب أبو حنيفة ومحمّد إلى أنّ المرتدّ إذا مات أو قتل وهي في العدّة وورثته قياساً على طلاق الفارّ، فإنّه يجب عليها عدّة الوفاة‏:‏ أربعة أشهر وعشر فيها ثلاث حيض، حتّى إنّها لو لم تر في مدّة الأربعة أشهر والعشر ثلاث حيض تستكمل بعد ذلك، لأنّ كلّ معتدّة ورثت تجب عليها عدّة الوفاة، ووجه قولهما‏:‏ بأنّ النّكاح لمّا بقي في حقّ الإرث، فلأن يبقى في حقّ وجوب العدّة أولى، لأنّ العدّة يحتاط في إيجابها، فكان قيام النّكاح من وجه كافياً لوجوب العدّة احتياطاً، فيجب عليها الاعتداد أربعة أشهر وعشراً فيها ثلاث حيض، قياساً على المطلّقة طلاقاً بائناً الّتي مات زوجها قبل أن تنقضي العدّة، وذكر القدوريّ روايتين في هذه المسألة عن أبي حنيفة[59]‏.‏

ثانيا :آثار الردة على الميراث
وسأبحث ميراث أحد الزوجين إذا ارتد الآخر, وميراث المرتد إذا مات زوجه أو قربيه المسلم , وميراث المرتدين من بعضهم البعض, وميراث المرتد من أهل الملة التي أعتنقها.
جاء في موسوعة الفقه الإسلامي[60] : (لا يرث المسلم الكافر، ولا يرث الكافر المسلم؛ لاختلاف دينهما، والكفار يرث بعضهم بعضاً مع اتفاق أديانهم لا مع اختلافها.
فيتوارث اليهود فيما بينهم، والنصارى فيما بينهم، والمجوس فيما بينهم، وبقية الملل فيما بينهم، ولا يرث اليهودي النصراني؛ لاختلاف الملة وهكذا بقية الملل..
المرتد عن دين الإسلام كافر لا يرث من غيره، ولا يرثه غيره من المسلمين، فيكون ماله إذا مات لبيت مال المسلمين.
إذا لا خلاف بين الفقهاء في ان المرتد لا يرث أحداً إجماعاً[61]. لقوله صلى الله عليه وسلم ((لاَيَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ، وَلاَ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ)[62] وعللوا ذلك بأن المرتد في حكم الميت – ان لم يتب – لاستحقاقه الموت ، ولانتفاء الموالاة بينه وبين ذويه .
وكذلك لانه لا يقر دينه الذي ارتد اليه ، فلا يتوارث اخوان ارتدا معاً الى النصرانية مثلاً ، ان كانا متفقين فيما رجعا اليه ، لان المرتد لا يقر له ما آل اليه من دين ، في حين لو كان الاخوان نصرانيين في الاصل لتوارثا[63].  ولا يخفى ما في هذا التفصيل من الدقة .
أما اذا رجع المرتد عن ردته الى الاسلام بعد وفاة قريبه وقبل قسمة تركته على المستحقين من ورثته ، فحكمه هو انه لا يرث منها شيئاً ، وهو قول الجمهور[64],أما الحنابلة والجعفرية ، فذهبوا الى انه اذا رجع الى الاسلام قبل اقامة الحد عليه وقبل قسمة التركة ، قسم له منها ، لان في هذا ترغيباً في الاسلام وحثاً عليه[65].
إلا ان ابا حنيفة ذهب الى ان المسلم يرث المرتد من ماله الذي اكتسبه زمن إسلامه لا زمن ردته ، وذلك لانه حق للمسلمين فيعود اليهم ، أما المرتدة ، فان المسلم يرثها من مالها الذي اكتسبته حال اسلامها وحال ردتها ما لم يلتحق بدار الحرب[66].
 وذهب شيخ الإسلام[67] إلى أن المرتد يورث، واستدل لذلك بأن الصحابة *رضي الله عنهم في أيام الردة يورثون أهل المرتدين من أموال المرتد.

جاء في الموسوعة الفقهية: اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَال الْمُرْتَدِّ إِذَا قُتِل، أَوْ مَاتَ عَلَى الرِّدَّةِ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
أ ـ أَنَّ جَمِيعَ مَالِهِ يَكُونُ فَيْئًا لِبَيْتِ الْمَال، وَهَذَا قَوْل مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ.
ب ـ أَنَّهُ يَكُونُ مَالُهُ لِوَرَثَتِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، سَوَاءٌ اكْتَسَبَهُ فِي إِسْلاَمِهِ أَوْ رِدَّتِهِ، وَهَذَا قَوْل أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ.
ج ـ أَنَّ مَا اكْتَسَبَهُ فِي حَال إِسْلاَمِهِ لِوَرَثَتِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَمَا اكْتَسَبَهُ فِي حَال رِدَّتِهِ لِبَيْتِ الْمَال، وَهَذَا قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ.
ولو أرتد متوارثان، فمات أحدهما، لم يرثه الأخر،وهو مذهب الحنفية[68] ، ورواية في مذهب الإمام أحمد[69].
يقول ابن قدامة : أما عن قواعد ميراث غير المرتد منه ، فانها تتمثل بأن الجمهور ذهبوا الى ان المرتد اذا قتل او مات على ردته ، كان ماله فيئاً ، مرجعه بيت مال المسلمين، ولا يرثه احد من المسلمين ولا من غيرهم ممن صار على دينهم[70].
ختاما ألخص ما مر ذكره عن ميراث المرتد بنقاط
1-    المرتد لا يرث إجماعا حال ردته, سواء من المسلم أم من مرتد مثله .
2-    اختلفوا إن رجع المرتد عن ردته الى الاسلام بعد وفاة قريبه وقبل قسمة تركته على المستحقين من ورثته ,قال الجمهور لا يرث وقال الحنابلة والجعفرية يرث.
3-    مال المرتد بعد موتة .
أ ـ أن المسلم لا يرث من قريبه المرتد ، وَهَذَا قَوْل مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ.
ب ـ أن المسلم يرث المرتد ، وَهَذَا قَوْل أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ ورجحه شيخ الإسلام ابن تيمية.
ج ـ أن المسلم يرث المرتد من المال الذي اكتسبه في حال إسلامه ولا يرثه من المال الذي اكتسبه حال ردته وهو قول أبي حنيفة.
د. المرتد لا يورث مرتدا مثله ولا يرثه أحدا من أهل الملة التي اعتنقها .
4-    المرتدة يرثها زوجها ما لم يلتحق بدار الحرب على قول ابي حنيفة.
ثالثا : أحكام ولد المرتد
لا يخلو ولد المرتد، من أن يكون مولودا في الإسلام أو في الردة، فإن كان مولودا في الإسلام بأن ولد للزوجين ولد وهما مسلمان، ثم ارتدا، فلا يحكم بردته ما دام في دار الإسلام؛ لأنه لما ولد وأبواه مسلمان فقد حكم بإسلامه تبعا لأبويه، فلا يزول بردتهما
وإن كان مولودا في الرِّدة بأن ارتد الزوجان ولا ولد لهما ثم حملت المرأة من زوجها بعد ردتها وهما مرتدان على حالهما فهذا الولد بمنزلة أبويه له حكم الردة"[71]
وقال صاحب التاج والإكليل لمختصر خليل: "أما ولد المرتد فلا يلحق به في الردة، إذا كان صغيرا إذ تبعية الولد لأبيه، إنما تكون في دين يُقَرَّ عليه"[72] الدين الذي يقر عليه هو الإسلام.
وقد نص الشربيني كذلك على أن الولد إن كان مولودا في الإسلام، فهو مسلم، وإن كان مولودا في الردة، فقيل: هو مسلم لبقاء علقة الإسلام في والديه، وقيل: هو مرتد تبعاً لهما، قال وهو الأظهر[73] .
وقد بيَّن ابن قدامة، أنه إذا ارتد أحد الوالدين، وبقي الآخر، فإنه يحكم للولد بالإسلام، ويتبع المسلم منهما، فقال: "الولد يتبع أبويه في الدين، فإذا اختلفا وجب أن يتبع المسلم منهما كولد المسلم من الكتابية؛ ولأن الإسلام يعلو ولا يعلى، ويترجح بأشياء، منها: أنه دين الله الذي رضيه لعباده وبعث به رسله ودعا خلقه إليه، ومنها: أنه تحصل به السعادة في الدنيا والآخرة ويتخلص به في الدنيا من القتل والاسترقاق وأداء الجزية وفي الآخرة من سخط الله وعذابه، ومنها: أن الدار دار الإسلام يحكم بإسلام لقيطها ومن لا تعرف حاله فيها"[74].
ويهمنا مما سبق أنه إذا ارتد شخص وله ولد مسلم فلا سلطان له عليه لأنه لا سلطان لكافر على مسلم ويجري على هذا الولد ما يجري على أمه من أحكام الميراث, وإن كانت له بنت وأرادت الزواج فلا ايصح أن يكون وليها في الزواج .




[1] لسان العرب مادة " كفر".
[2] مجموع الفتاوى(20/86)
[3] كتابه الملل و النحل , الشهرستاني
[4] المرجع السابق.
[5] فجر الاسلام - لأحمد امين، بتصرف
[6] الآية 29 من سورة التوبة .
[7] الآية 150 من سورة النساء .
[8] ينظر ( أعلام السنة المنشورة 177 ) و ( نواقض الإيمان القولية والعملية للشيخ عبد العزيز آل عبد اللطيف36 – 46 ) و ( ضوابط التكفير للشيخ عبد الله القرني 183 – 196 ).
[9] البقرة/89
[10]  البقرة :146
[11] الأنعام/33
[12] النمل/14
[13] مجموع الفتاوى (7/533)
[14] البقرة/34
[15] النور/47
[16] الأحقاف/3
[17] البقرة/8–20
[18] الكهف/35-38.
[19] اخرجه البيهقي في كتاب السنن الكبرى باب الشهادات.
[20] كتاب التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد(17/13ـ 27).
[21]منقول عن  موقع الشيخ ابن باز https://www.binbaz.org.sa/noor/695
[22]  مقال ضوابط التكفير للشيخ خالد حسن محمد البعداني الأثنين 31 ديسمبر 2012 http://www.jameataleman.org/main/articles.aspx?article_no=1122
[23] [الأعراف: 33].
[24]  [الإسراء: 36].
[25] [الإسراء: 15]
[26] [التوبة: 115]
[27] [النساء: 165]
[28] الاستغاثة (1/381).
[29] [النساء: 115].
[30] مدارج السالكين (1/367 )
[31] مجموع الفتاوى( 3/230 )
[32] ( الأحزاب الآية 5 )
[33] اخرجه ابن ماجة
[34] المحلى( 8/33 ).
[35] أحكام القرآن( 3/1180).
[36] انظر : المغني 12/292 - 295،  وشرح صحيح البخاري, ابن حجر 12/311- 315.
[37] الأم: الأقضية (6/ 205).
[38] مجموع الفتاوى , ابن تيمية.
[39]  تحفة المحتاج في شرح المنهاج, أحمد بن محمد بن علي بن حجر الهيتمي,(9/96).
[40] "المغني" (7/133) .
[41]  الفقه على المذاهب الأربعة ,عبد الرحمن الجزيري(4/106).
[42] الموسوعة الفقهية ,الفتوى رقم: 74023.
[43] صحيح فقه السنة وأدلته وتوضيح مذاهب الأئمة, أبو مالك كمال بن السيد سالم (4/176).
[44] الجوهرة النيرة,أبو بكر بن علي بن محمد الحدادي العبادي(2/23).
[45] كنـز الدقائق،كتاب السير
[46] في اللباب في شرح الكتاب، ج3/28،
[47] تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام, إبراهيم بن علي بن محمد، ابن فرحون (2/278). بتصرف
[48] روضة الطالبين وعمدة المفتين, يحيى بن شرف النووي (10/72), كتاب الأم ج 6/160‏،
[49] ينظر : "المغني" (7/133) ، "الموسوعة الفقهية" (22/198) ، "الإنصاف" (8/216) ، "كشاف القناع" (5/121) ، "تحفة المحتاج" (7/328 ) ، "الفتاوى الهندية" (1/339) ، "حاشية الدسوقي" (2/270) .
[50] الموسوعة الفقهية الكويتية (33/104)
[51] المقنع, ابن قدامة المقدسي , (1/316).
[52] زاد المعاد (5/133-140)
[53] "مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين" (12/116) .
[54] الموسوعة الفقهية الكويتية
[55] المرجع السابق
[56] الحاوي الكبير , للماوردي ( 11/449).
[57] منقول من كتاب آثار حل عصمة الزوجية , نور الدين أبو لحية ,باب ارتداد الزوج
[58]  (بدائع الصنائع: الكاساني 3/200.
[59] الموسوعة الفقهية الكويتية (29/278)
[60] موسوعة الفقه الإسلامي , التويجري، محمد بن إبراهيم,  باب ميراث أهل الملل وميراث المرتد.
[61] محمد الشربيني الخطيب ، مغني المحتاج الى معرفة معاني الفاظ المنهاج ، ، ج3، ص25.
[62]  رواه البيهقي ـ كتاب الفرئض ـ باب لا يرث المسلم الكافر (12589).
[63] أمين عبد المعبود زغلول ، ص99 .
[64] لشيخ ابراهيم البيجوري ، الجزء الثاني من حاشيته ، ص74.
[65] ابن قدامة ، المغني ، ج7 ، ص171.
[66] حسين علي الاعظمي ، الوصايا والمواريث ، ص 251-252.
[67] الشرح الممتع (11/308).
[68] الفروع (5/51)، الشرح الكبير (6/20).
[69] المغني ( 6/300ـ 301)،
[70] ابن قدامة , المغني , ج7, ص174.
[71] بدائع الصنائع 6/ 125.
[72] التاج والإكليل لمختصر خليل 12/ 53.
[73] مغني المحتاج4/ 142.
[74] الشرح الكبير10/ 103.

تعليقات