ملاحظة هامة : لا مانع من نسخ أي جزء من البحث بشرط ذكر المؤلف وعنوان البحث ضمن المراجع وإلا ستعتبر سرقة علمية , ومن يفعل ذلك يعرض نفسه للمسائلة القانونية
§
التقوية بالمتابعات والشواهد : [1]
لمَّا كان علم الحديث
يعتمد على معرفة أحوال الرواة تعديلاً وتجريحاً، وأحوال الروايات تصحيحاً وتعليلاً،
وكان السبيل إلى إدراك ذلك، اعتبار الروايات، وعرض بعضها ببعض، ليَظهر ما فيها من اتَّفاقٍ،
أو اختلافٍ أو تفردٍ، ليُعامل كلٌّ بحسبه.
ولمَّا كان ذلك لا
يتحقق إلا بكثرة البحث والتفتيش عن الأسانيد والروايات، في بطون الكتب، وصدور الرجال،
كان للاعتبار عند المحدّثين أهميته البالغة، وضرورته القصوى.
فبالاعتبار، يُعرف
الصحيح من الضعيف من الروايات، وذلك بالنظر في الطرق التي اعتُبِرت وسُبِرت، وعرضها
على باقي الطرق والروايات في بابها، فيظهر الاتفاق، والذي هو مظنَّه الحفظ، والاختلاف
أو التفرد، واللذان هما مظنَّتا الخطأ.
ثم تدور هذه الأحاديث
في إطار قواعد وضوابط، تحوطها من كل جانب، وتعالجها من كل جهة، ومن خلالها يظهر الصحيح
من الضعيف، والمحفوظ من غيره.
وبالاعتبار، يتبين
حال رواة الحديث من حيث التوثيق والتجريح، فمن عُهد عليه الإصابة، وكثرة الموافقة للثقات،
كان ثقةً مثلهم، ومن عُهِد عليه الخطأ، وكَثْرة المخالفة للثقات، أو التفرد والإِغْراب
ورواية ما لا يعرفون، كان ضعيفاً في حفظه، وبقدر الموافقة والمخالفة بقدر ما
يُعرف حفظه وضبطه.
ولما كان الاعتبار
عند المحدثين بهذا الشأن العظيم، بذله من أجله كل نفس ونفيس، وطاف البلدان، وسمعوا
من أهل الأمصار، رغبة في تمييز الأحاديث، والوقوف على الصحيح منها والسقيم، ومعرفة
ما أصاب فيه الرواة وما أخطئوا فيه.
فهذا؛ إمام واحد،
من أجل اعتبار حديث واحد، طاف بلدناً شتَّى، ودخل مدائن عدةً حتى وقف على علَّته، وهو
الإمام شُعْبة بن الحجاج، عليه رحمة الله تعالى:
قال نصْر بن حمَّاد
الورَّاق[2]:
كنا قعوداً على باب
شعبة؛ نتذاكر.
فقلت: حدثنا إسرائيل،
عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن عطاء، عن عقبة بن عامر، قال: كنا نتناوب رعيَّة الإبل
على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجئتُ ذات يومٍ والنبي - صلى الله عليه
وسلم - حوله أصحابه؛ فسمعتُه يقول:
"
من توضأ، فأحسن الوضوء ثم صلى ركعتين فاستغفر الله؛ إلا غفر له". فقلت: بخٍ بخٍ !
فجذبني رجل من خلفي،
فالتفتُّ؛ فإذا عمر بن الخطاب، فقال الذي قبل أحسن! فقلت: وما قبل؟!
قال: قال:
"من شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله؛ قيل له: ادخل من أي أبواب
الجنة شئت".
قال: فخرج شعبة؛
فلطمني، ثم رجع فدخل؛ فتنحَّيت من ناحية، قال: ثم خرج؛ فقال: ما له يبكي بعد؟!
فقال له عبد الله
بن إدريس: إنك أسأت إليه!
فقال شعبة: انظر؛
ماذا تحدث! ! إن أبا إسحاق حدثني بهذا الحديث، عن عبد الله بن عطاء، عن عقبة بن عامر،
قال: فقلنا لأبي إسحاق: من عبد الله بن عطاء؟ قال: فغضب، ومِسعرُ بن كِدَام حاضر، قال:
فقلت له. لتصححن لي هذا، أو لأُحَرِّقن ما كتبتُ عنك! فقال مِسعر: عبد الله بن عطاء
بمكة.
قال شعبة: فرحلت
إلى مكة، لم أُرد الحج، أردت الحديث، فلقيت عبد الله بن عطاء، فسألته، فقال سعد بن
إبراهيم حدثني فقال لي مالك بن أنس: سعد بالمدينة، لم يحج العام.
قال شعبة: فرحلت
إلى المدينة، فلقيت سعد بن إبراهيم، فسألته، فقال الحديث من عندكم؛ زياد بن مِخراق
حدثني.
قال شعبة: فلما ذكر
زياداً، قلت أيُّ شيءٍ هذا الحديث؟ ! بينما هو كوفي، إذ صار مدنياً، إذ صار بصرياً!
!
قال: فرحلت إلى البصرة،
فلقيت زياد بن مِحراق، فسألته، فقال: ليس هو من بابَتِك!
قلت: حدثني به. قال
لا ترده! قلت: حدثني به. قال حدثني شَهْر بن حَوشَب، عن أبي ريحانة، عن عقبة
بن عامر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
قال شعبة: فلما ذكر
شهر بن حوشب، قلت: دمَّر هذا الحديث؛ لو صح لي مثل هذا عن رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - كان أحب إلى من أهلي ومالي والناس أجمعين! !
وهذا إمام آخر، طاف
نحو طَوَفان شعبة بن الحجاج، من أجل اعتبار حديث واحد أيضاً:
قال محمود بن غَيْلان
[3] : سمعت المؤمل
ذُكر عنده الحديث الذي يُروى عن أُبيّ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في
"فضل
القرآن"، فقال حدثني رجل ثقة ـ سماه ـ، قال: حدثني رجل ثقة ـ سماه ـ قال:
أتيت المدائن، فلقيت
الرجل الذي يَروي هذا الحديث، فقلت له: حدِّثني؛ فإني أريد البصرة. فقال: هذا الرجل
الذي سمعناه منه هو بواسط في أصحاب القصب!
قال: فأتيت واسطاً،
فلقيت الشيخ، فقلت: إني كنت بالمدائن، فدلني عليك الشيخ، وإني أريد أن آتي البصرة.
قال إن هذا الذي سمعت منه هو بالكَلاء!
فأتيت البصرة، فلقيت
الشيخ بالكلاء، فقلت له: حدِّثني؛ فإني أريد أن آتي عَبَّادان. فقال إن الشيخ الذي
سمعناه منه هو بعَبَّادان! فأتيت عَبَّادان، فلقيت الشخ، فقلت له: اتق الله؛ ما حال
هذا الحديث؟ ! ! أتيت المدائن، فقصصت عليه، ثم واسطاً، ثم البصرة، فدُلِلْت عليك، وما
ظننت إلا أن هؤلاء كلَّهم قد ماتوا! فأخبرني بقصة هذا الحديث؟ !
فقال: إنا اجتمعنا
هنا، فرأينا الناس قد رغبوا عن القرآن، وزهدوا فيه، وأخذوا في هذه الأحاديث، فقعدنا،
فوضعنا لهم هذه الفضائل حتى يرغبوا فيه! !
يقول المعلمي ـ رحمه
الله ـ معلقاً على هذه القصة :
"لعل
هذا الرجل قطع نحو ثلاثة أشهر مسافراً لتحقيق رواية هذا الحديث الواحد".
بل؛ قد يكون الواحد
منهم قد اعتبر الرواية بالفعل، وعرف ما وقع فيها من الخطأ، وتحقق من كونها غير محفوظة،
فيريد أن يتبين: مَن الراوي المخطئ فيها: هل هو فلان، أم فلان؟
فيقطع من أجل تحقيق ذلك مفاوز، ويطوف بلداناً، ويدخل أمصاراً، ليسمع الحديث من غير
وجه، ليقابل الأوجه بعضها ببعض، ويَزِنها بميزان الاعتبار، حتى
يتحقق من أن المخطئ في الرواية فلان، وليس غيره.
يقول محمد بن إبراهيم
بن أبي شيخٍ المَلْطي : جاء يحيى بن معين إلى عفان بن مسلم؛ ليسمع
منه كتب حماد بن سلمة.
فقال له: ما سمعتَها
من أحد؟ قال: نعم؛ حدثني سبعة عشر نفساً عن حماد
بن سلمة. فقال: والله؛ لا حدثتك !
فقال: إن حماد بن
سلمة كان يخطئ، فأردت أن أميز خطئه من خطأ غيره:
فإذا رأيت أصحابه قد اجتمعوا على شيء؛ علمت أن الخطأ من حماد نفسه. وإذا اجتمعوا على
شيء عنه، وقال واحد منهم بخلافهم؛ علمت أن الخطأ منه لا من حماد؛ فأميز بين ما أخطأ
هو بنفسه، وبين ما أُخطِئ عليه.
ولأجل هذا؛ لم يكونوا
يتعجلون الحكم على الحديث، ولا يتسرعون في إطلاق الأحكام على الأسانيد والروايات، ولا
يغترون بظواهر الأسانيد، بل كانوا أحياناً يمضون الأيام الكثيرة والأزمنة البعيدة من
أجل معرفة ما إذا كان الحديث محفوظاً، أم اعتراه شيء من الخطأ والوهم.
يقول الإمام الخطيب
البغدادي: "من الأحاديث؛ ما تخفى علته، فلا يوقف
عليها إلا بعد النظر الشديد، ومُضِيّ زمن بعيد".
ثم أسند عن الإمام
علي بن المديني، أنه قال: "ربما أدركت علة حديث بعد أربعين سنة"!
ولهذا؛ ما كانوا
يسارعون إلى رد نقد النقاد، لمجرد عدم علمهم بأدلتهم، إلا بعد البحث الشديد، واستفراغ
الجهد في الوقوف على ما عليه اعتمدوا في نقدهم، فإذا سمعوا منهم حكماً مجملاً، عارياً
عن الدليل، فحثوا عن دليله؛ لعلمهم، أن مثل
هؤلاء النقاد لا يتكلمون بالمجازفة أو الحدس.
روى بن أبي حاتم
، عن ابن أبي الثلج، قال: كنا نذكر هذا الحديث ـ يعني: حديث موسى بن أَعْين، عن عبيد
الله، عن نافع، عن ابن عمر ـ مرفوعاً ـ: "إن الرجل ليكون من أهل الصوم، والصلاة
والزكاة والحج"، حتى ذكر سهام الخير "فما يُجزى يوم القيامة إلا بقدر عقله"
ـ، ليحيى بن معين، سنتين أو ثلاثة، فيقول: هو باطل؛ ولا يدفعه بشيء، حتى قدم علينا
زكريا بن عدي، فحدثنا بهذا الحديث، عن عبيد الله بن عمرو، عن إسحاق بن أبي فروة؛ فأتيناه
، فأخبرناه، فقال: هذا بابن أبي فروة أشبه منه بعبيد الله بن عمرو"
ولم يكونوا يكتفون
بالسماع المجرد، وإنما تعدَّوا ذلك، فاعتنوا بجمع الأصول، والوقوف على الكتب الحديثية،
فإن الحفظ يخون، بخلاف الكتاب، فإنه أصون وأبعد عن الخطأ والوهم.
ولهذا؛ كانوا يرجعون
إلى الأصول والكتب إذا استنكروا ما يحدِّث به الراوي من حفظه، فإن وجدوا له أصلاً في
كتبه عرفوا أنه صواب، وإلا فلا.
وكانوا ـ أيضاً ـ
إذا اختلفوا فيما بينهم في حديثٍ أو أحاديث، رجعوا إلى الكتب، فتحاكموا إلى ما فيها.
قال عبد الله بن
المبارك : "إذا اختلف الناس في حديث شعبة، فكتاب
غندر حكم بينهم".
ورأى أحمد بن حنبل يحيى بن معين في زاوية بصنعاء، وهو يكتب صحيفة:
"معمر، عن أبان، عن أنس"، فإذا اطلع عليه إنسان كتمه.
فقال أحمد بن حنبل
له: تكتب صحيفة: "معمر، عن أبان، عن أنس"، وتعلم أنها موضوعة؟! فلو قال لك
قائل: أنت تتكلم في "أبان"، ثم تكتب حديثه على الوجه؟!
قال: رحمك الله؛
يا أبا عبد الله! أكتب هذه الصحيفة "عن عبد الرزاق، عن معمر، عن أبان، عن أنس"
وأحفظها كلها، وأعلم أنها موضوعة؛ حتى لا يجيء إنسان، فيجعل بدل: "أبان":
"ثابتاً"، ويرويها: "عن معمر، عن ثابت، عن أنس"؛ فأقول له: كذبت؛
إنما هي: "أبان" لا "ثابت".
وقال الحسين بن الحسن
المروزي : سمعت عبد الرحمن بن مهدي
يقول: كنت عند أبي عَوَانة، فحدَّث بحديث عن الأعمش،
فقلتُ: ليس هذا من حديثك. قال: بلى! قلت: بلى! قال:
يا سلامة! هات الدَّرج فأخرجت، فنظر فيه، فإذا ليس الحديث فيه. قال: صدقت! يا أبا سعيد؛ فمن أين أُتيت؟ قلت: ذوكرت
به وأنت شاب، ظننت أنك سمعته!!
وقال يحيى بن معين
[4] :
حضرتُ نعيم بن حماد
ـ بمصر ـ، فجعل يقرأ كتاباً صنَّفه. فقال:
حدثنا ابن المبارك، عن ابن عون؛وذكر أحاديث.
فقلت: ليس ذا عن
ابن المبارك.فغضب؛ وقال: ترد عليَّ؟! قلت:
إي! والله؛ أريد زَيْنَك. فأبى أن يرجع.
فلما رأيته لا يرجع،
قلت: لا! والله؛ ما سمعت هذه من ابن المبارك، ولا سمعها هو من ابن عون قط! فغضب، وغضب
من كان عنده، وقام فدخ؛ فأخرج صحائف، فجعل يقول ـ وهي بيده ـ أين الذين يزعمون أن يحيى
بن معين ليس بأمير المؤمنين في الحديث؟ !
نعم! يا أبا زكريا؛
غَلِطتُ، وإنما روى هذه الأحاديث غير ابن المبارك، عن ابن عون! !
وهذا حديث من تلك
التي أنكرها ابن معين على نعيم بن حماد، بهذا الإسناد: قال هاشم بن مرثد الطبراني
: قيل ليحيى بن معين ـ وأنا أسمع ـ: حديث؛ رواه نعيم بن حماد عن ابن المبارك، عن ابن
عون، عن محمد بن سرين، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
"إذا اغْتَلَمَتْ آنيتُكُم، فاكسروها بالماء"؟
فقال يحيى بن معين:
قال لي نعيم: سمعته من ابن المبارك؛ فقلت كَذِبٌ فقال لي: اتق الله!
فقلت: كذب، والله
الذي لا إله إلا هو. فذهب، ثم لقيني بعد، فقال: ما وجدت له عندي أصلاً؛ فرجع عنه!
!
وكان رواة الحديث
يعرفون شأن نقاده، ويقدرونهم قدرهم، ويُنزلونهم منزلتهم، فكانوا يرجعون إليهم ويسألونهم
عن أحوال أنفسهم وأحاديثهم، وإذا بينوا لهم الخطأ رجعوا عنه، ولم يحدثوا به بعد.
فكل راوٍ من الرواة
كان يعلم أن نقاد الحديث وجهابذته أعلم بحديثه: صحيحه وسقيمه، ومحفوظه ومنكره؛ وأعلم
بحاله: ثقتِه وضعفهِ؛ من نفسه التي بين جنبيه.
قال ابن معين: قال
لي إسماعيل بن عُليَّة يوماً: كيف حديثي؟ ! قلت:
أنت مستقيم الحديث. فقال لي: وكيف علمتم ذاك؟ !
قلت له: عارضنا بها
أحاديث الناس، فرأيناها مستقيمة. فقال: الحمد لله، فلم يزل يقول: الحمد لله،
ويحمد ربه، حتى دخل دار بشر بن معروف ـ أو قال: دار البختري ـ، وأنا معه! ! وقال
ابن أبي حاتم : رأيت كتاب؛ كتبه عبد الرحمن بن عمر الأصبهاني المعروف بـ
"رُوسْتَه"؛ من أصبهان، إلى أبي زرعة ـ بخطه ـ: وإني كنت رويت عندكم عن ابن
مهدي، عن سفيان، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم
-، أنه قال: "أبردوا بالظُّهر؛ فإن شدة الحر من فيح جهنم"، فقلتَ: هذا غلط؛
الناس يروونه "عن أبي سعيد، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ".
فوقع ذلك من قولك
في نفسي، فلم أكن أنساه، حتى قدمت، ونظرت في الأصل، فإذا هو "عن أبي سعيد، عن
النبي - صلى الله عليه وسلم - "؛ فإن خَفَّ عليك، فأعْلِم أبا حاتم ـ عافاه الله
ـ ومن سألك من أصحابنا؛ فإنك في ذلك مأجور، إن شاء الله؛ والعار خير من النار.
تقوية الحديث
الضعيف بالمتابعات [5]:
والشواهد ،
وضوابط ذلك
... تعد تقوية
الحديث الضعيف بالمتابعات والشواهد من أعظم مسائل علوم الحديث دقة ، ومن أكثرها حساسة
؛ لتوقفها على علم العلل من جهة . ولكونها أساساً لكثير من المسائل الفقهية
والعقدية والسلوكية وغيرها من جهة أخرى ، ولذا يتعين علينا معرفة منهج المحدثين
النقاد في تنظير هذه المسألة وتطبيقها ، إذا أردنا أن نخدم السنة وفقهها خدمة تليق
بمكانتها التشريعية .
... وعلى الرغم
من ذلك فإن كثيراً من الباحثين يتناولون اليوم هذه المسألة ، كأنها في متناول
الجميع ، يتصدون لتطبيقها ،وليس لديهم من المعارف والخبرات ما يؤهلهم لذلك ، اللهم
إلا ما أخذوا من كتب المصطلح من تصورات عامة عن "الشاهد" ونوعي "
المتابعة" : التامة والقاصرة ؛ فيجمعون الروايات حتى لو كانت معلولة أعلها
النقاد بالتفرد أو المخالفة ، أو مذكورة في كتب الضعفاء لغرض البرهنة على ضعف
رواتها المترجم لهم فيها ، أو الأحاديث التي ينفرد بها أحد الرواة في أواخر مرحلة
الرواية ، مما لا يعرفها المحدثون القدامي ، أقول : يجمعون هذه الأنواع من
الأحاديث كحاطبي الليل ، من أجل الصحيح أو التحسين.
... ولذلك
فالحديث الذي أعلّه نقاد الحديث بغرابته ، أو تفرده ، أو بقوله : " لا يصح في
هذا الباب شيء " ، يكون عند كثير من المعاصرين محل إشكال ورفض ، لا سيما في
حالة ما إذا كان راوي الحديث ثقة أو صدوقاً . وكان سندهم الوحيد في هذا الموقف
الرافض هو أن الراوي صالح مقبول حديثه ، وأنه لم يكن متروكاً ولا متهماً بالكذب
والوضع . وإن كان هذا يفهم من كتب المصطلح كقاعدة مطردة في مسألة تقوية الحديث
الضعيف ، لكنها مقيدة بشروط سيأتي ذكرها وفق منهج المحدثين النقاد في قبول الحديث
ورده .
... ويمكن أن
نفهم من هذا النموذج الواقعي أن الذي يشكل عقبة كبيرة في سبيل دارسي علوم الحديث
عموماً هو الإطلاق فيما
قول ابن الصلاح
في مسألة تقوية الحديث الضعيف
... وليكون هذا
الأمر أكثر وضوحاً يحسن بنا أن ننظر ونتأمل في قول الحافظ ابن الصلاح ( رحمه الله
تعالي ) في مسألة تقوية الحديث الضعيف ، باعتباره مرجعاً أصيلاً في تقعيدها لدى
اللاحقين عموماً ، وهذا نصه ( رحمه الله ) :
... " ليس
كل ضعف يزول بمجيئه من وجوه ، بل ذلك يتفاوت ، فمنه ضعف يزيله ذلك بأن يكون ضعفه
ناشئاً من ضعف حفظ راويه مع كونه من أهل الصدق والديانة ، فإذا رأينا ما رواه قد
جاء من وجه آخر عرفنا أنه مما قد حفظه ، ولم يختل ضبطه له ، وكذلك إذا كان ضعفه من
حيث الإرسال زال بنحو ذلك ، كما في المرسل الذي يرسله إمام حافظ إذا فيه ضعف قليل
يزول بروايته من وجه آخر . ومن ذلك ضعف لا يزول بنحو ذلك لقوة الضعف وتقاعد هذا
الجابر عن جبره ومقاومته ، وذلك كالضعف الذي ينشأ من كون الراوي متهماً بالكذب ،
أو كون الحديث شاذاً . ( والله أعلم ) " اهـ (1).
... وإن كان هذا
النص يدلك بظاهره على أن الضابط في تقوية الحديث الضعيف بالمتابعات والشواهد هو أن
لا تكون هذه المتابعات والشواهد من مرويات المتروكين ، وأن لا يكون فيها شذوذ ،
فإن الإمام النووي اختصر النص على النحو الذي يتبلور فيه الشرط الأول دون الثاني ،
إذ قال ( رحمه الله تعالى ) :
... " إذا
روي الحديث الضعيف من وجوه ضعيفة لا يلزم أن يحصل من مجموعها حسن ، بل ما كان ضعفه
لضعف حفظ راويه الصدوق الأمين زال بمجيئه من وجه آخر وصار حسنا ، وكذا إذا كان
ضعفه بالإرسال زال بمجيئه من وجه آخر ، وأما الضعف لفسق الراوي فلا يؤثر فيه
موافقة غيره "(2)
... ... وكذا
اختصره الإمام ابن كثير ، وهذا نصه :
... " قال
الشيخ أبو عمرو : لا يلزم من ورد الحديث من طرق متعددة أن يكون حسناً ، لأن الضعف
يتفاوت فمنه مما لا يزول بالمتابعات - يعني كرواية الكذابين والمتروكين - ومنه ضعف
يزول بالمتابعة كما إذا كان راويه سيئ الحفظ ، أو روى الحديث مرسلاً ، فإن
المتابعة تنفع حينئذ ويرفع الحديث عن حضيض الضعف إلى أوجه الحسن أو الصحة . والله
أعلم "(3) ا هـ
... وقال الطيبي
في هذا الخصوص : " وأما الضعيف فلكذب راويه أو فسقه ، لا ينجبر بتعدد طرقه
" (4) .
... وقال
الزركشي : " والحاصل أن الذي يحتاج إلى مجيئه من غير وجه ما كان راويه في
درجة المستور ومن لم تثبت عدالته " (5)
... ونرى في هذه
النصوص منهجاً أوسع مما ذكره ابن الصلاح ، إذ لم تكن فيها قاعدة تقوية الحديث
الضعيف بالمتابعات والشواهد مرتكزة في صياغتها إلا على شرط واحد ، وهو أن لا يكون
الحديث من مرويات المتروكين ، دون أن يذكر الشرط الثاني ، وهو أن لا يكون الحديث
شاذاً .
... وإن كان
الأساس في هذه المسألة لدى كثير من المعاصرين هو ما ذكره النووي وغيره من اللاحقين
، فإن الشرط الثاني الذي نص عليه ابن الصلاح ، وهو أن لا يكون الحديث شاذاً ، يبقى
لديهم مجرد مسألة نظرية دون تطبيق .
... ولذلك فإنه
من الصعوبة بمكان أن يأتي عملهم في هذا المجال - مجال تقوية الحديث الضعيف
بالمتابعات والشواهد - وفق منهج النقاد الأوائل ، وبالتالي فما أعله النقاد من
الأحاديث ، يكون في نظر المعاصرين صحيحاً لغيره إن كان راوي ذلك الحديث صدوقاً ،
أو حسناً لغيره في حال كون راويه ضعيفاً غير متروك ، وعلى هذا جرى الكثيرون من
المتأخرين أيضاً ، لا سيما فقهاؤهم .
... وإن معالجة
هذه المسألة - مسألة تقوية الحديث الضعيف بالمتابعات والشواهد - من جذورها ، ثم
تأسيسها على منهج النقاد المتقدمين ، مع إزاحة جميع أنواع الشبهات عنها ، أمر لابد
منه لكي ندافع عن السنة النبوية كما دافع عنها سلفنا الصالح ، لا سيما نفاد الحديث
؛ ولذلك فإننا نطرح هنا بعض التساؤلات فيما نقلناه عن الإمام ابن الصلاح وغيره
آنفاً ، وهي :
هل قصد ابن
الصلاح بقوله : " ولا يكون شاذاً " شرطاً أٍساسياً في تقوية الحديث
الضعيف ؟
وما مصدره في
ذكر هذا الشرط ؟
أو أنه ذكره فقط
اختصاراً لكلام الإمام الترمذي الذي تضمّن ذلك ، دون تقييده بالمعنى الذي آثره ابن
الصلاح في مقدمته ؟
ولما أفرد الشاذ
بالذكر دون العلة ؟ وهل كان ذلك من أجل التفريق بينهما في مسألة التقوية ؟ أي أنه
إذا كان الحديث معلولاً يتقوه به الحديث ويعد متابعاً وشاهداً له ، حتى ولو كانت
كل الأحاديث قد أعلّها النقاد بالتفرد والغرابة أو المخالفة ؟
وماذا يعني ابن
الصلاح بالشاذ هنا بالضبط ؛ أهو الذي عرفه في المقدمة أم الذي اشتهر عند المحدثين
الحفاظ ؟
... وللإجابة عن
هذه التساؤلات ينبغي أن نتأمل فيما شرحه ابن الصلاح ونبحث عن مصدره في ذلك ثم نفسر
المصطلح الذي تضمنه ذلك الشرح تفسيراً منهجياً يقوم على مراعاة منهج ذلك المصدر .
مصدر ابن الصلاح
في مسألة تقوية الضعيف
... ويظهر جلياً
من خلال قراءة نص الإمام ابن الصلاح الذي سبق نقله أنه اعتمد في تلخيص المسألة
التي نحن بصددها على قولين : أحدهما للإمام الشافعي والآخر للإمام الترمذي .
المصدر الأول
لابن الصلاح :
... وأما اعتماد
ابن الصلاح قول الإمام الشافعي في ذلك فإنه جلي من خلال المقارنة بينهما ، يقول
الإمام الشافعي في الاحتجاج بالمرسل :
... " … فمن
شاهد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من التابعين ، فحدّث حديثاً منقطعاً عن
النبي اعتبر عليه بأمور؛ منها :
... أن ينظر ما
أرسل من الحديث .
فإن شركه فيه
الحفاظ المأمونون فأسندوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - بمثل بمعنى ما روى -
: كانت هذه دلالة على صحة من قبل عنه وحفظه .
وإن انفرد
بإرسال حديث لم يشركه فيه من يسنده قبل ما ينفرد به من ذلك .
ويعتبر عليه بأن
ينظر : هل يوافقه مرسل غيره ممن قبل العلم عنه من غير رجاله الذين قبل عنهم ، فإن
وجد ذلك كانت دلالة يقوى به مرسله وهي أضعف من الأولى .
وإن لم يوجد ذلك
نظر إلى بعض ما يروى عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً له ، فإن
وجد يوافق ما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت هذه دلالة على أنه لم يأخذ
مرسله إلا عن أصل يصح إن شاء الله .
ج - وكذلك إن
وجد عوام من أهل العلم يفتون بمثل معنى ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم .
قال الشافعي :
ثم يعتبر عليه بأن يكون إذا سمى من روى عنه لم يسم مجهولاً ولا مرغوباً عن الرواية
عنه فيستدل بذلك على صحته فيما روى عنه ، ويكون إذا شرك أحداً من الحفاظ في حديث
لم يخالفه فإن خالفه وجد حديثه أنقص كانت في هذه دلائل على صحة مخرج حديثه .
ومتى خالف ما
وصفت أضر بحديثه ، حتى لا يسع أحداً منهم قبول مرسله.
قال : وإذا وجدت
الدلائل بصحة حديثه بما وصفت أحببنا أن نقبل مرسله .
ولا نستطيع أن
نزعم أن الحجة تثبت به ثبوتها بالمتصل (1) اهـ .
... يفيدنا هذا
النص أن المرسل ليس بحجة إلا إذا كان مرسله ثقة لا يرسل عن الضعفاء ولا عن المجاهل
، ثم جاء م وجه آخر مسندا ًمن رواية الحفاظ الثقات ، أو مرسلاً أرسله من لم يأخذ
الحديث عمن أخذه عنه المرسل الأول ، أو وافقه عمل الصحابة أو فتواه ، وذلك ليطمئن
قلب الناقد بتعدد مصدر الحديث ، أو بوجود أصل صحيح له ، ومن هنا أصبح واضحاً أن
ابن الصلاح قد اعتمد هذا القول حين خصّ المرسل بذكره من أنواع الانقطاع وإلا لأشار
إليها جميعاً ، كما هو مفهوم من قول الإمام الترمذي وعمله في السنن .
المصدر الثاني
لابن الصلاح :
... ولئن كان
الاحتجاج بالمرسل وما يتعلق به من الشروط التي ذكرها الإمام الشافعي ، ثم لخصها
الإمام ابن الصلاح ضمن ذلك النص الذي سبق ذكره أمراً في غاية الوضوح ، فإن الجانب
الذي يتضمنه قول الإمام الترمذي يقتضي شيئاً من التفصيل والتحليل لنقف سوياً على
ما يشكل إجابة علمية لتلك التساؤلات التي سبق طرحها آنفاً ،ولذا فإن نص الإمام الترمذي
يكون المحور الرئيس في الفقرات التالية :
... يقول الإمام
الترمذي :
... " وما
قلنا في كتابنا هذا حديث حسن فإنما أردنا به حسن إسناده عندنا :
كل حديث يروى لا
يكون في إسناده من يتهم بالكذب .
ولا يكون الحديث
شاذاً ويروى من غير وجه نحو ذاك فهو عندنا حديث حسن " (1) اهـ .
... ويمكن تلخيص
هذا النص بما يلي : أن حسن السند يتحقق بمجرد كون راويه غير متروك ، كما في حرف
(أ) ، ويتحقق حسن المتن بمجرد كونه مروياً من غير وجه نحو ذلك ، كما في حرف (ب ) ،
يعني بذلك ورود حديث آخر يؤيد معنى ذلك المتن ، أو ثبوت عمل أحد الصحابة بمقتضاه ،
أو فتواه به ، على أساس أن تكون الجملة : " ويروى من غير وجه نحو ذلك "
تفسيراً للجملة : "ولا يكون الحديث شاذاً " ويكون ذلك جميعاً هو معنى
قوله " حديث حسن " مجرداً عن الصحيح .
... وبذلك يكون
لتحسين الإمام الترمذي مغزى آخر غير الذي يهدف إليه الكثيرون من المعاصرين من
تحسين الحديث ، وهو زوال الشذوذ عن المتن بالطريقة التي بينتها آنفاً ، ولذا فما
يحسنه في سننه لا يلزم أن يكون صالحاً للاحتجاج به دوماً ، كما سيأتي من التفصيل
حول ذلك .
... والذي يهمنا
هنا هو تحقيق معنى الشاذ في هذا النص باعتباره مصدراً للإمام ابن الصلاح في تحديد
الضابط في مسألة تقوية الحديث الضعيف ، وقد سبق في التساؤلات ماذا يقصد ابن الصلاح
بقوله " وأن لا يكون الحديث شاذاً"؟ ،وهل يرى ضرورة الاحتراز من الشذوذ
دون العلة في تقوية الضعيف ؟
... ويظن كثير
منا أن الشاذ في نص الإمام الترمذي هو ما ألفناه في كتب المصطلح عموماً من مخالفة
الثقة أو الصدوق لمن هو أوثق منه ، وهذا غير سليم في نظري ؛ إذ لا يتسق كلام
الترمذي على هذا المعنى للشاذ ، حيث إن مناسبته كانت فيما كان يرويه الضعيف غير
المتهم بالكذب .
... فقد قال
الحافظ العراقي ( رحمه الله تعالى ) : " فهذه أقسام الضعيف باعتبار الانفراد
والاجتماع ، وقد تركت من الأقسام التي يظن انقسامه إليها بحسب اجتماع الأوصاف عدة
أقسام ، وهي اجتماع الشذوذ ووجود ضعيف ، أو مجهول ، أو مستور في سنده لأنه لا يمكن
اجتماع ذلك على الصحيح ، لأن الشذوذ تفرد الثقة فلا يمكن وصف ما فيه راو ضعيف أو
مجهول أو مستور بأنه شاذ " (2) ا هـ .
... بيد أن قول
الإمام الترمذي يكون متسقاً بعضه على بعض إذا فسرنا الشاذ بالمعنى الذي آثره ابن
الصلاح في مقدمته ؛ إذ كل حديث مخالف للراجح يكون عنده شاذاً ، سواء كان راويه ثقة
أم ضعيفاً . كما يعد ابن الصلاح ما تفرّد به الراوي الضعيف شاذا منكراً أيضاً ،
حيث إن مفهوم الشاذ عند أعم مما شرحه الإمام الشافعي حين جعله مقيداً بالثقة ،وهو
الذي اختاره كثير من اللاحقين .
الاحتراز من
الشذوذ يتضمن الاحتراز من العلة
... وإذا كان
ابن الصلاح قد اعتمد قول الإمام الترمذي في إضافة هذا الشرط ، ألا وهو أن يكون
الحديث خالياً من الشذوذ ، وفسرنا هذا الشذوذ بما عرفه هو في المقدمة ،وهو ما خالف
الراوي فيه الأوثق والأحفظ ، فإن العلة تكون مثل الشاذ في وجوب الاحتراز منها ،
لكونها متفقة مع الشاذ في معناه الجوهري ، كما يتجلى ذلك مما شرحه الإمام ابن
الصلاح في نوع العلة(1) ؛ إذ قال فيه :
... "
ويستعان على إدراكها بتفرد الراوي ، وبمخالفة غيره له مع قرائن تنضم إلى ذلك ،
تنبه العارف بهذا الشأن على إرسال في الموصول ، أو وقف في المرفوع ، أو دخول حديث
في حديث أو وهم واهم بغير ذلك " .
... وفي ضوء هذا
النص فنقطة المخالفة والتفرد التي تكون على النحو الذي ورد فيه ، تشكل المناط في
مفهوم العلة ، وكذا أيضاً في مفهومي الشاذ والمنكر ؛ إذ يقومان على مخالفة الحديث
للراجح أو التفرد بما ليس له أصل أيضاً ، وليس مطلق المخالفة ولا مطلق التفرد .
... هذا إذا
جعلنا هذا النص الوارد في العلة شاملاً لما رواه الثقة والضعيف ، وهو الصواب الذي
يتأيد بعمل نقاد الحديث . وأما إذا حملناه على ما رواه الثقة وحده ، وجعلناه ميدان
العلة ، كما يعتقده الكثير ، فوجه انفصال العلة عن الشاذ يصبح واضحاً فقط في حالة
كون الراوي المخالف صدوقاً أو ضعيفاً غير متروك ، إذ الشاذ أعم من العلة لكونه
يشمل حديث الصدوق والضعيف غير المتروك في حالة مخالفته حديث الثقة حسب رأي ابن
الصلاح، وأما العلة فيكون ميدانها حديث الثقة وحده . وبالتالي يلزم من ذكر
الاحتراز من الشذوذ في تقوية الحديث الضعيف الاحتراز من العلة تلقائياً لكون
الشذوذ شاملاً لها .
... وأما عند
اللاحقين الذي يجعلون الشاذ والمعلول مقيدين برواية الثقات ، فإن فصله عن العلة
يبقى نظرياً مجرداً لا يؤيده الواقع ؛ إذا العلة عندهم متصلة بأحاديث الثقات ، وهي
ميدان وقوعها ،وكذلك الشاذ أيضاً . وإذا كانت "مخالفة الثقة للراجح " من
أهم العناصر التي ينطوي عليها مفهوم هذين النوعين فيكيف ينفصل أحدهما عن الآخر ؟
وإذا فرضنا وجود فرق بينهما من حيث الجوهر فأي نوع من المخالفة يجعل حديث الثقة
معلولاً دون الشذوذ ؟ وهو في غاية الإشكال.
... وهل يمكن
القول إن الشاذ عندهم هو مجرد المخالفة ، وأما العلة فتختلف عنه بتقيدها بمخالفة
الراجح أو التفرد بما لا أصل له ؟ وعليه يكون الشاذ أعم من المعلول من جهة الإطلاق
والتقييد ، وبالتالي لا يكون الشاذ المطلق مما ينبغي الإحتراز منه ، لا في التصحيح
ولا في التحسين ، لكون الشاذ عبارة عن مجرد وجود المخالفة ، سواء أكانت نتيجة خطأ
أم نتيجة خطأ أم نتيجة صواب ، غير أن الإمام الشافعي الذي شرح الشاذ بالمخالفة قد
قيده بمخالفة الثقة للراجح (2) . وكذلك الإمام بن الصلاح لم يذهب إلى إطلاق
المخالفة في الشاذ المردود ، حين جعله مقيداً بمخالفة الراوي الأوثق والأحفظ .
... ولا شك أن
هذه المخالفة التي يكون منشؤها الوهم والخطأ هي بذاتها تشكل المناط في مفهوم العلة
، كما سبق آنفاً نص الإمام ابن الصلاح ، وهو قوله : " ويستعان على إدراكها
بتفرد الراوي ، وبمخالفة غيره له مع قرائن تنضم … " وعلى هذا التفسير
لمصطلحي الشذوذ والعلة ، يلزم من قول ابن الصلاح في مسألة تقوية الضعيف " وأن
لا يكون شاذاً " أن لا يكون معلولاً أيضاً .
... ومن خلال ما
سبق من تحليل نص الإمام ابن الصلاح ، وتفسير الشاذ بمعانيه المختلفة المعروفة في
كتب المصطلح كان الأمر واضحاً أن العلة كالشاذ في ضرورة الاحتراز منها في مسألة
تقوية الضعيف .
نصوص ابن الصلاح
المتصلة بـ " حسن لذاته " و " حسن لغيره " ومدى موافقتها بما
سبق ذكره في مسألة الاحتراز عن الشذوذ
... لكن تظهر
مشكلة أخرى في نصوص ابن الصلاح حول تفصيل " حسن لذاته " و " حسن
لغيره " ، وهي أنه يفرق بين الشاذ والعلة ، وتوضيح ذلك فيما يلي ؛ يقول
الإمام ابن الصلاح في موضوع الحسن :
... " إن
الحديث الحسن قسمان ؛ أحدهما : الحديث الذي لا يخلو رجال إسناده من مستور لم تحقق
أهليته ، غير أنه ليس مغفلاً كثير الخطأ فيما يرويه ، ولا هو متهم بالكذب في
الحديث أي لم يظهر منه تعمد الكذب في الحديث ولا سب آخر مفسق ، ويكون متن الحديث
مع ذلك قد عرف بأن روي مثله أو نحوه من وجه آخر ، أو أكثر ، حتى اعتضد بمتابعة من
تابع راويه على مثله ، أو بما له من شاهد ،وهو ورود حديث آخر بنحوه ؛ فيخرج بذلك
عن أن يكون شاذاً منكراً ، وكلام الترمذي على هذا القسم يتنزل " ا هـ
منهج الإمام
الترمذي في تقوية الضعيف .
... ولئن كان
الإمام الترمذي يقصد بالشاذ غرابة المتن فإن مغزى تحسينه للحديث الضعيف هو زوال
الشذوذ والغرابة عن المتن ، ولذلك فإن المسلك الذي سلكه المتأخرون في التقوية
والتحسين يكون مختلفاً تماماً عن منهج الترمذي في ذلك ، إذ كان الإمام الترمذي قد
يريد بالحسن مجرد زوال حالة الغرابة عن المتن بكونه معروفاً بعمل أحد الصحابة
بمقتضاه ، دون أن يقصد بذلك تقوية الحديث مرفوعاً ، ولا إثباته عن النبي صلى الله
عليه وسلم ، بشرط أن لا يكون في سنده راو متروك ، والدليل على ذلك أن كثيراً ما
يعلل سند الحديث بالتفرد والغرابة ، مشيراً إلى عدم ثبوت ذلك الحديث عن النبي صلى
الله عليه وسلم رواية ، وفي الوقت نفسه يصفه بالحسن (1) ، وبهذا يكون معنى هذا
التحسين هو أن متن الحديث لم يكن غريباً عموماً ، بل قد عرف ذلك بعمل بعض الصحابة
به ، أو فتواه به ، أو له شاهد حديثي . ولنتأكد من ذلك يكون من الأفضل أن ننظر في
سياق قول الإمام الترمذي ، وهذا نصه :
... " وما
قلنا في كتابنا هذا حديث حسن فإنما أردنا به حسن إسناده عندنا ، كل حديث يروى لا
يكون في إسناده من يتهم بالكذب ولا يكون الحديث شاذاً ويروي من غير وجه نحو ذاك
فهو عندنا حديث حسن " (2) ا هـ .
... وقوله
" ويروى من غير وجه " تفسير لقوله " ولا يكون شاذاً " يعني أن
يروى ذلك المعنى من أي وجه آخر ، سواء كان ذلك حديثاً مروياً شاهداً أو متابعة ،
أم عملاً أم فتوى لبعض الصحابة أو التابعين ، فيخرج بذلك عن أن يكون شاذاً . ومن
تتبع الجوانب التطبيقية لهذا المصطلح في سننه يجد ذلك المعنى مجسداً .
... ولكون
الإمام الترمذي قد توسع في تحسين الحديث بالشكل الذي سبق ذكره لعل هذا ما حمل
الحافظ ابن حجر على أن يقول : إنه لا يلزم الاحتجاج بكل ما يحسنه الترمذي . والجدير
بالذكر أن هذا لا يعني إنكار الإحتجاج بكل ما يحسنه (رحمه الله تعالى ) .
... ومن الأفضل
أن أنقل قوله هنا ، وهو : " وقد صرح أبو الحسن ابن القطان أحد الحفاظ النقاد
من أهل المغرب في كتابه ( بيان الوهم والإيهام ) بأن هذا القسم ( يعني ما يحسنه
الترمذي ) لا يحتج به كله ، بل يعمل به في فضائل الأعمال ،ويتوقف العمل به في
الأحكام ، إلا إذا كثرت طرقه أو عضده باتصال عمل أو موافقة شاهد صحيح أو ظاهر
القرآن " .
... وعقبه
الحافظ بقوله " وهذا حسن قوي رايق ، ما أظن منصفاً يأباه والله الموفق . ويدل
على أن الحديث إذا وصفه الترمذي بالحسن لا يلزم عنده أن يحتج به أنه أخرج حديثاً
من طريق خيثمة البصري عن الحسن عن عمران بن حصين ( رضي الله تعالى عنه ) وقال بعده
هذا حديث حسن ، وليس إسناده بذاك " .
... " وقال
في كتاب العلم بعد أن أخرج حديثاً في فضل العلم : هذا حديث حسن ، قال : وإنما لم
نقل لهذا الحديث : صحيح ، لأنه يقال : إن الأعمش دلس فيه فرواه بعضهم عنه ، قال :
حُدِّثتُ عن أبي صالح عن أبي هريرة ( رضي الله عنه) " .
... " فحكم
له بالحسن للتردد الواقع فيه وامتنع عن الحكم عليه بالصحة لذلك ، لكن في كل
المثالين نظر ، لاحتمال أن يكون سبب تحسينه لهما كونهما جاءا من وجه آخر كما تقدّم
تقريره ، لكن محل بحثنا هنا : هل يلزم من الوصف بالحسن الحكم له بالحجة أم لا ؟ ،
هذا الذي يتوقف فيه والقلب إلى ما حرره ابن القطان أميل . والله أعلم " (3) ا
هـ .
... وسيأتي في
قسم الموازنة بعض الأمثلة التي تكون أصرح وأوضح مما ذكره الحافظ ابن حجر في إفادة
ذلك من عدم لزوم العمل بكل ما يحسنه الإمام الترمذي وعدم الاحتجاج به من الأحاديث
، وأن غرضه في ذلك هو إفادة أن متن الحديث ليس فيه شذوذ ولا غرابة ، وأن مضمون ذلك
قد عرف إما قولاً للنبي صلى الله عليه وسلم أو قولاً للصحابة أو عملاً له ، وإن لم
تصح روايته عن النبي صلى الله عليه وسلم أصلاً . ولذلك يكون فيما حسنه الإمام في
سننه ما يصلح للاحتجاج كما يكون فيه ما لا يصلح لذلك .
تباين منهجي في
تحسين الحديث الضعيف
... وإذا تبين
لنا أن طريقة الإمام الترمذي في تحسين الحديث تختلف عن أٍسلوب المتأخرين فيه فإن
ما يحسنه كثير من المعاصرين من الأحاديث عن طريق المتابعات والشواهد ، من أجل
تقوية الضعيف والعمل به ينبغي إخضاعه لقوانين النقد المستمدة من منهج ناقد الحديث
في ذلك عموماً . وذلك لسبب إطلاقهم القاعدة في تقوية الحديث الضعيف ، وإدراجه ضمن
الأحاديث المحتج بها باعتباره حسناً لغيره ، وهذا خطأ واضح ؛ إذ كان النقاد يفرقون
في مسألة تقوية الحديث الضعيف وجعله صالحاً للاحتجاج ، بين الرواية التي أخطأ فيها
الراوي ، سواء كان ثقة أم سيئ الحفظ ، وبين التي لم يتبين لهم فيها الخطأ ، وكذلك
المرسل وجميع أنواع الانقطاع فإنه لا تنفع له المتابعة إلا إذا جاءت طبقاً لشروط
معينة كما شرحها الإمام الشافعي(1) وغيره من الأئمة ( رحمهم الله تعالى جميعاً ) ،
وذلك من أجل التأكد من تعدد مصادر ذلك الحديث المرسل والمنقطع ، لأنه قد يكون
التعدد وهمياً لا حقيقياً ، كما وقع في حديث القهقهة ، وغيرها من الأمثلة التي
ستأتي في قسم الموازنة من هذا الكتاب .
الضابط العلمي
في تقوية الحديث الضعيف عند نقاد الحديث
... ومن هنا
تشتد الحاجة إلى تحديد الضوابط في مسألة تقوية الحديث الضعيف ، وتأصيلها على منهج
النقاد ، وهو أن الفاصل العلمي بين ما ينجبر وبين مالا ينجبر من الروايات الضعيفة
هو أن لا يتبين للناقد أن الراوي قد وهم في روايته ، وأما ما وهم فيه الراوي فلا
يعد متابعة ولا شاهداً ، ولذلك نجد النقاد يحكمون على الرواية بغرابتها ، رغم أنهم
قد ساقوا روايات تكون بظاهرها متابعة لها ، أو شواهد . ومن لا يعرف منهجهم في
التعليل والتصحيح يجد نفسه مضطراً لرفض الحكم الذي صدر منهم في هذا المجال قائلاً
: " هذه روايات متعددة ، يقوي بعضها بعضاً ، ويكون الحديث حسناً لغيره أو
صحيحاً لغيره " بحجة أن ذلك الحديث لم يكون من مرويات المتروكين " .
... فائدة :
... وهاهنا
فائدة مهمة جاءت محصلة لهذه الدراسة ، وهي أن ما ذكره ابن الصلاح في مجال تقوية
الحديث الضعيف لا ينبغي إطلاقه كقاعدة مطردة ، بل لابد من تقييده بحالة ما إذا لم
يتأكد النقاد فيها على وجود خطا فيما رواه الراوي ، سواء كان ثقة أم ضعيفاً . وأما
في حالة ظهور خطأ ووهم في الرواية فلا مجال لتطبيق تلك القاعدة .
... وبهذه
النتيجة أصبح واضحاً لدى القارئ أنني لم أكن بهذه الدراسة النقدية طاعناً في علم
ابن الصلاح ولا غيره من الأئمة الأجلاء المحترمين لدى الأمة ، ولا في عملهم ، ولا
في نواياهم ، ولا في شخصيتهم ، التي يجب علينا احترامها وتقديرها والوفاء لها ،
بيد أن هذه الدراسة لفتت الانتباه إلى أن التقصير يأتي عادة من قبل الدارسين بسبب
تسرعهم في الفهم والاستنتاج والإطلاق فيما ينبغي تقييده ، والتقييد فيما يجب
إطلاقه .
[1] الإرشادات
في تقوية الأحاديث بالشواهد والمتابعات (ص: 10-22)
[2] رواه:
ابن حبان في "المجروحين" (1/29) ، وابن عبد البر في "التمهيد"
(1/48ـ 49) والخطيب في "الرحلة" (59) وكذا في "الكفاية" (ص.
566 ـ 567) والبيهقي في "القراءة خلف الإمام" (ص 207 ـ 208) .
(1) [3] "الكفاية" للخطيب (ص 567 ـ 568) ، و
(شرح الألفية) للعراقي (1/270 ـ 271) ، وكذا "التقييد والإيضاح" له (ص
134) ، و"النكت" لابن حجر (2/862)
(1) [4] "سير أعلام النبلاء" (11/89-90) و
"الكفاية" (ص 231) .
[5] الموازنة بين المتقدمين والمتأخرين في تصحيح الأحاديث وتعليلها (40-52)
تعليقات
إرسال تعليق
علق هنا...