ملاحظة هامة : لا مانع من نسخ أي جزء من البحث بشرط ذكر المؤلف وعنوان البحث ضمن المراجع وإلا ستعتبر سرقة علمية , ومن يفعل ذلك يعرض نفسه للمسائلة القانونية
نشأة تدوين الحديث وتصنيفه وتطور ذلك عبر
القرون
ذكر الخطيب
البغدادي في مقدمة كتابه (1):
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ،
الْأَغَرِّ الْأَكْرَمِ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ
يَعْلَمْ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى الصَّادِقِ الْأَمِينِ، النَّاطِقِ الْمُبِينِ مُحَمَّدٍ
نَبِيِّنَا الْمُخْتَارِ، وَعَلَى إِخْوَانِهِ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ، وَأَهْلِ
بَيْتِهِ الْأَبْرَارِ، وَأَزْوَاجِهِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَتَابِعِيهِمْ بِالْإِحْسَانِ
إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ.
أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ لِلْعُلُومِ مِحِلَّيْنِ: أَحَدُهُمَا
الْقُلُوبُ، وَالْآخَرُ الْكُتُبُ الْمُدَوَّنَةُ، فَمَنْ أُوتِي سَمْعًا وَاعِيًا،
وَقَلْبًا حَافِظًا، فَذَاكَ الَّذِي عَلَتْ دَرَجَتُهُ، وَعَظُمَتْ فِي الْعِلْمِ
مَنْزِلَتُهُ، وَعَلَى حِفْظِهِ مُعَوَّلُهُ؛ وَمَنْ عَجَزَ عَنِ الْحِفْظِ قَلْبُهُ،
فَخَطَّ عِلْمَهُ وَكَتَبَهُ، كَانَ ذَلِكَ تَقْيِيدًا مِنْهُ لَهُ، إِذْ كِتَابُهُ
عِنْدَهُ آمِنٌ مِنْ قَلْبِهِ، لِمَا يَعْرِضُ لِلْقُلُوبِ مِنَ النِّسْيَانِ، وَيَنْقَسِمُ
الْأَفْكَارُ مِنْ طَوَارِقِ الْحَدَثَانِ. وَقَدْ جَاءَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا تَكْتُبُوا عَنِّي شَيْئًا سِوَى الْقُرْآنِ،
وَمَنْ كَتَبَ عَنِّي غَيْرَ الْقُرْآنِ فَلْيَمْحُهُ» ، فَحَمَلَ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ
حُكْمَ كِتَابِ الْعِلْمِ عَلَى ظَاهِرِ هَذَا الْخَبَرِ، وَكَرِهُوا أَنْ يُكْتَبُ
شَيْءٌ مِنَ الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِ فِي الصُّحُفِ، وَشَدَّدُوا فِي ذَلِكَ وَأَجَازَ
آخَرُونَ مِنْهُمْ كِتَابَ الْعِلْمِ وَتَدْوِينَهُ، وَأَنَا أَذْكُرُ بِمَشِيئَةِ
اللَّهِ مَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْكَرَاهَةِ وَأُبَيِّنُ وَجْهَهَا وَأَنَّ كَتْبَ
الْعِلْمِ مُبَاحٌ غَيْرُ مَحْظُورٍ، وَمُسْتَحَبٌّ غَيْرُ مَكْرُوهٍ. وَبِالِلَّهِ
تَعَالَى أَسْتَعِينُ، وَهُوَ حَسْبِي، وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.
النهي عن الكتابة:
- أورد بعد ذلك
الأحاديث المروية عن الرسول –صلى الله عليه وسلم – والتي تنهى عن الكتابة، ومنها:
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
قَالَ: «لَا تَكْتُبُوا عَنِّي شَيْئًا سِوَى الْقُرْآنِ» وَقَالَ الصَّغَانِيُّ:
«غَيْرَ الْقُرْآنِ» , ثُمَّ اتَّفَقَا «فَمَنْ كَتَبَ عَنِّي غَيْرَ الْقُرْآنِ فَلْيَمْحُهُ» وَقَالَ: «حَدِّثُوا عَنِّي , وَلَا تَكْذِبُوا
عَلَيَّ , وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ» قَالَ هَمَّامٌ: أَحْسِبُهُ قَالَ: «مُتَعَمِّدًا
فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ».
- ذِكْرُ حَدِيثٍ آخَرَ , عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ النَّبِيَّ
, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ , فِي كَتْبِ الْحَدِيثِ , فَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ
- ثم ذكر حديثاً عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه, قَالَ: خَرَجَ
عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ , صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ , وَنَحْنُ نَكْتُبُ الْأَحَادِيثَ
فَقَالَ: " مَا هَذَا الَّذِي تَكْتُبُونَ؟ قُلْنَا: أَحَادِيثَ نَسْمَعُهَا مِنْكَ
, قَالَ: «كِتَابٌ غَيْرَ كِتَابِ اللَّهِ؟ أَتَدْرُونَ مَا ضَلَّ الْأُمَمَ قَبْلَكُمْ؟
أَلَا بِمَا اكْتَتَبُوا مِنَ الْكُتُبِ مَعَ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى» . قُلْنَا:
أَنُحَدِّثُ عَنْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ , قَالَ: «حَدِّثُوا عَنِّي وَلَا حَرَجَ وَمَنْ
كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْتَيَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» . قُلْنَا:
فَنَتَحَدَّثُ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ؟ قَالَ: «حَدِّثُوا وَلَا حَرَجَ فَإِنَّكُمْ
لَمْ تُحَدِّثُوا عَنْهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا وَقَدْ كَانَ فِيهِمْ أَعْجَبُ مِنْهُ»
. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَجَمَعْنَاهَا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَأَلْقَيْنَاهَا فِي
النَّارِ. هَذَا لَفْظُ حَدِيثِ الْقَطِيعِيِّ , وَالْآخَرُ بِمَعْنَاهُ , إِلَّا أَنَّهُ
قَالَ فِيهِ: «أَكِتَابٌ مَعَ كِتَابِ اللَّهِ؟ أَمْحِضُوا كِتَابَ اللَّهِ وَأَخْلِصُوهُ»
.
- ثم ذكر رواية
مرفوعة عن زيد بن ثابت وروايات أخرى موقوفة على أبي سعيد وعبدالله بن مسعود وأبي
موسى وأبي هريرة وعبدالله بن عباس وعبد الله بن عمر – رضي الله عنهم أجمعين.
- ثم وجد عدد من
التابعين كرهوا الكتابة كذلك الأمر.
جواز الكتابة:
وردت عدة أحاديث
تدل على جواز الكتابة منها:
- ما روي عن النَّبِيِّ , صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ , أَنَّهُ أَمَرَ الَّذِي شَكَا إِلَيْهِ سُوءَ الْحِفْظِ أَنْ يَسْتَعِينَ
بِالْخَطِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ كَانَ رَجُلٌ يَشْهَدُ حَدِيثَ , النَّبِيِّ
, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ , فَلَا يَحْفَظُهُ , فِيسْأَلُنِي , فَأُحَدِّثُهُ , فَشَكَا
قِلَّةَ حِفْظِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ , صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ , فَقَالَ لَهُ
النَّبِيُّ , صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ: «اسْتَعِنْ عَلَى حِفْظِكَ بِيَمِينِكَ» , يَعْنِي
الْكِتَابَ.
(1)تقييد العلم للخطيب البغدادي: أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت بن أحمد بن مهدي الخطيب البغدادي
(ت: 463هـ) - إحياء السنة النبوية – بيروت.
(1)
- مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ , صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ , أَنَّهُ قَالَ: " قَيِّدُوا الْعِلْمَ بِالْكِتَابَةِ".(1)
- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَمْرٍو، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أُقَيِّدُ الْعِلْمَ؟ قَالَ: «نَعَمْ»
. قُلْتُ وَمَا تَقْيِيدُهُ , قَالَ: " الْكِتَابُ".(2)
- عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ
أَنَّ النَّبِيَّ , صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ , أَذِنَ لَهُمْ فِي كَتْبِ مَا سَمِعُوهُ
مِنْهُ.(3)
- كما وجدت الرِّوَايَاتِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ
, أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ , صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فِي كَتْبِ
حَدِيثِهِ عَنْهُ , فَأَذِنَ لَهُ، ومنها : عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ،
عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَكْتُبُ مَا أَسْمَعُ مِنْكَ؟ قَالَ:
«نَعَمْ» , قُلْتُ: فِي الرِّضَا وَالْغَضَبِ؟ قَالَ: «نَعَمْ» , قَالَ: «فَإِنِّي
لَا أَقُولُ إِلَّا حَقًّا».(4)
وقد أخرج ابن الصلاح في مقدمته (5) في النوع الخامس والعشرين من علوم
الحديث قوله:
"النَّوْعُ الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ فِي كِتَابَةِ الْحَدِيثِ، ....
اخْتَلَفَ الصَّدْرُ الْأَوَّلُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي كِتَابَةِ الْحَدِيثِ،
فَمِنْهُمْ مَنْ كَرِهَ كِتَابَةَ الْحَدِيثِ، وَالْعِلْمِ، وَأَمَرُوا بِحِفْظِهِ،
وَمِنْهُمْ مَنْ أَجَازَ ذَلِكَ.
وَمِمَّنْ رُوِّينَا عَنْهُ كَرَاهَةَ ذَلِكَ: عُمَرُ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَزَيْدُ
بْنُ ثَابِتٍ، وَأَبُو مُوسَى، وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ، فِي جَمَاعَةٍ آخَرِينَ
مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ.
وَرُوِّينَا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَا تَكْتُبُوا عَنِّي شَيْئًا إِلَّا الْقُرْآنَ،
وَمَنْ كَتَبَ عَنِّي شَيْئًا غَيْرَ الْقُرْآنِ فَلْيَمْحُهُ ". أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ
فِي صَحِيحِهِ.
وَمِمَّنْ رُوِّينَا عَنْهُ إِبَاحَةَ ذَلِكَ، أَوْ فَعَلَهُ عَلِيٌّ، وَابْنُهُ
الْحَسَنُ، وَأَنَسٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، فِي جَمْعٍ آخَرِينَ
مِنَ الصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعِينَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ.
وَمِنْ صَحِيحِ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الدَّالِّ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ: حَدِيثُ أَبِي شَاهٍ الْيَمَنِيِّ فِي الْتِمَاسِهِ
مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ شَيْئًا
سَمِعَهُ مِنْ خُطْبَتِهِ عَامَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: " اكْتُبُوا لِأَبِي شَاهٍ".
وَلَعَلَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذِنَ فِي الْكِتَابَةِ عَنْهُ
لِمَنْ خَشِيَ عَلَيْهِ النِّسْيَانَ، وَنَهَى عَنِ الْكِتَابَةِ عَنْهُ مَنْ وَثِقَ
بِحِفْظِهِ، مَخَافَةَ الِاتِّكَالِ عَلَى الْكِتَابِ، أَوْ نَهَى عَنْ كِتَابَةِ ذَلِكَ
حِينَ خَافَ عَلَيْهِمُ اخْتِلَاطَ ذَلِكَ بِصُحُفِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَأَذِنَ
فِي كِتَابَتِهِ حِينَ أَمِنَ مِنْ ذَلِكَ.
وَأَخْبَرَنَا أَبُو الْفَتْحِ
بْنُ عَبْدِ الْمُنْعِمِ الْفُرَاوِيُّ - قِرَاءَةً عَلَيْهِ بِنَيْسَابُورَ جَبَرَهَا
اللَّهُ - أَخْبَرَنَا أَبُو الْمَعَالِي الْفَارِسِيُّ، أَخْبَرَنَا الْحَافِظُ أَبُو
بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ بِشْرَانَ، أَخْبَرَنَا
أَبُو عَمْرِو بْنُ السَّمَّاكِ، ثَنَا حَنْبَلُ بْنُ إِسْحَاقَ، ثَنَا سُلَيْمَانُ
بْنُ أَحْمَدَ، ثَنَا الْوَلِيدُ هُوَ ابْنُ مُسْلِمٍ قَالَ: كَانَ الْأَوْزَاعِيُّ
يَقُولُ: " كَانَ هَذَا الْعِلْمُ كَرِيمًا يَتَلَقَّاهُ الرِّجَالُ بَيْنَهُمْ،
فَلَمَّا دَخَلَ فِي الْكُتُبِ دَخَلَ فِيهِ غَيْرُ أَهْلِهِ.
(1)تقييد العلم للخطيب البغدادي: أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت بن أحمد بن مهدي الخطيب البغدادي
(ت: 463هـ) - إحياء السنة النبوية – بيروت.
(2)المصدرالسابق
(3)المصدر السابق
(4)المصدر السابق
(5) معرفة أنواع علوم الحديث، ويُعرف بمقدمة ابن الصلاح: عثمان بن عبد الرحمن،
أبوعمرو، تقي الدين المعروف بابن الصلاح (ت: 643هـ) المحقق: نور الدين عتر - دار الفكر-
سوريا، دار الفكر المعاصر – بيروت ، 1406هـ - 1986م .
(2)
ثُمَّ إِنَّهُ زَالَ ذَلِكَ الْخِلَافُ وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَسْوِيغِ
ذَلِكَ وَإِبَاحَتِهِ، وَلَوْلَا تَدْوِينُهُ فِي الْكُتُبِ لَدُرِسَ فِي الْأَعْصُرِ
الْآخِرَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ إِنَّ عَلَى كَتَبَةِ الْحَدِيثِ، وَطَلَبَتِهِ صَرْفَ الْهِمَّةِ إِلَى
ضَبْطِ مَا يَكْتُبُونَهُ، أَوْ يُحَصِّلُونَهُ بِخَطِّ الْغَيْرِ مِنْ مَرْوِيَّاتِهِمْ
عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي رَوَوْهُ شَكْلًا، وَنَقْطًا يُؤْمَنُ مَعَهُمَا الِالْتِبَاسُ،
وَكَثِيرًا مَا يَتَهَاوَنُ بِذَلِكَ الْوَاثِقُ بِذِهْنِهِ، وَتَيَقُّظِهِ، وَذَلِكَ
وَخِيمُ الْعَاقِبَةِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ مُعَرَّضٌ لِلنِّسْيَانِ، وَأَوَّلُ نَاسٍ
أَوَّلُ النَّاسِ، وَإِعْجَامُ الْمَكْتُوبِ يَمْنَعُ مِنِ اسْتِعْجَامِهِ، وَشَكْلُهُ
يَمْنَعُ مِنْ إِشْكَالِهِ.
ثُمَّ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَعَنَّى بِتَقْيِيدِ الْوَاضِحِ الَّذِي لَا يَكَادُ
يَلْتَبِسُ، وَقَدْ أَحْسَنَ مِنْ قَالَ: إِنَّمَا يُشْكَلُ مَا يُشْكِل "(1).
(1) معرفة أنواع علوم الحديث، ويُعرف
بمقدمة ابن الصلاح: عثمان بن عبد الرحمن، أبوعمرو، تقي الدين المعروف بابن الصلاح
(ت: 643هـ) المحقق: نور الدين عتر - دار الفكر- سوريا، دار الفكر المعاصر – بيروت
، 1406هـ - 1986م .
(3)
فِي سَبَب جمع الحَدِيث فِي الصُّحُف وَمَا يُنَاسب ذَلِك : (1)
(( كَانَت الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم لَا يَكْتُبُونَ عَن النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم غير الْقُرْآن أخرج مُسلم فِي صَحِيحه عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ
أَنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تكْتبُوا عني وَمن كتب عني
غير الْقُرْآن فليمحه وَحَدثُوا عني فَلَا حرج وَمن كذب عَليّ مُتَعَمدا فَليَتَبَوَّأ
مَقْعَده من النَّار
قَالَ كثير من الْعلمَاء نَهَاهُم عَن كِتَابَة الحَدِيث خشيَة اخْتِلَاطه بِالْقُرْآنِ
وَهَذَا لَا يُنَافِي جَوَاز كِتَابَته إِذا أَمن اللّبْس وَبِذَلِك يحصل الْجمع بَين
هَذَا وَبَين قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فِي مَرضه الَّذِي توفّي فِيهِ
ايتوني بِكِتَاب أكتب لكم كتابا لَا تضلوا بعده وَقَوله اكتبوا لأبي شاه وَغير ذَلِك
مِمَّا هُوَ مَعْرُوف عِنْد أهل الحَدِيث
وَلما توفّي النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام بَادر الصَّحَابَة إِلَى
جمع مَا كتب فِي عَهده فِي مَوضِع وَاحِد وَسموا ذَلِك الْمُصحف واقتصروا على ذَلِك
وَلم يتجاوزوه إِلَى كِتَابَة الحَدِيث وَجمعه فِي مَوضِع وَاحِد كَمَا فعلوا بِالْقُرْآنِ
لَكِن صرفُوا هممهم إِلَى نشره بطرِيق الرِّوَايَة إِمَّا بِنَفس الْأَلْفَاظ الَّتِي
سمعوها مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام إِن بقيت فِي أذهانهم أَو بِمَا يُؤَدِّي
مَعْنَاهَا إِن غَابَتْ عَنْهُم فَإِن الْمَقْصُود بِالْحَدِيثِ هُوَ الْمَعْنى وَلَا
يتَعَلَّق فِي الْغَالِب حكم بالمبنى بِخِلَاف الْقُرْآن فَإِن لألفاظه مدخلًا فِي
الإعجاز فَلَا يجوز إِبْدَال لفظ مِنْهُ بِلَفْظ آخر وَلَو كَانَ مرادفا لَهُ خشيَة
النسْيَان مَعَ طول الزَّمَان فَوَجَبَ أَن يُقيد بِالْكِتَابَةِ وَلَا يكْتَفى فِيهِ
بِالْحِفْظِ
قَالَ الإِمَام الْخطابِيّ فِي كِتَابه فِي إعجاز الْقُرْآن إِنَّمَا يقوم الْكَلَام
بِهَذِهِ الْأَشْيَاء الثَّلَاثَة لفظ حَامِل وَمعنى قَائِم بِهِ ورباط لَهما ناظم
وَإِذا تَأَمَّلت الْقُرْآن وجدت هَذِه الْأُمُور مِنْهُ فِي غَايَة الشّرف والفضيلة
حَتَّى لَا ترى شَيْئا من الْأَلْفَاظ أفْصح وَلَا أجزل وَلَا أعذب من أَلْفَاظه وَلَا
ترى نظما أحسن تأليفا وَأَشد تلاؤما وتشاكلا من نظمه
وَأما مَعَانِيه فَكل ذِي لب يشْهد لَهَا بالتقدم فِي أبوابه والترقي إِلَى
أَعلَى درجاته وَقد تُوجد هَذِه الْفَضَائِل الثَّلَاث على التَّفَرُّق فِي أَنْوَاع
الْكَلَام فَأَما أَن تُوجد مَجْمُوعَة فِي نوع وَاحِد مِنْهُ فَلم تُوجد إِلَّا فِي
كَلَام الْعَلِيم الْقَدِير
فَخرج من هَذَا أَن الْقُرْآن إِنَّمَا صَار معجزا لِأَنَّهُ جَاءَ بأفصح الْأَلْفَاظ
فِي أحسن نظم فِي التَّأْلِيف مضمنا أصح الْمعَانِي من تَوْحِيد الله تَعَالَى وتنزيه
لَهُ فِي ذَاته وَصِفَاته وَدُعَاء إِلَى طَاعَته وَبَيَان لطريق عِبَادَته وَمن تَحْلِيل
وَتَحْرِيم وحظر وَإِبَاحَة وَمن وعظ وتقويم وَأمر بِمَعْرُوف وَنهي عَن مُنكر وإرشاد
إِلَى محَاسِن الْأَخْلَاق وزجر عَن مساويها وَاضِعا كل شَيْء مِنْهَا مَوْضِعه الَّذِي
لَا يرى شَيْء أولى مِنْهُ
وَلَا يتَوَهَّم فِي صُورَة الْعقل أَمر أليق بِهِ مِنْهُ مودعا أَخْبَار الْقُرُون
الْمَاضِيَة وَمَا نزل من مثلات الله بِمن مضى وعاند مِنْهُم منبئا عَن الكوائن المستقبلية
فِي الْأَعْصَار الْآتِيَة من الزَّمَان جَامعا بَين الْحجَّة والمحتج لَهُ وَالدَّلِيل
والمدلول عَلَيْهِ ليَكُون ذَلِك آكِد للُزُوم مَا دَعَا إِلَيْهِ وأنبأ عَن وجوب مَا
أَمر بِهِ وَنهى عَنهُ
وَمَعْلُوم أَن الْإِتْيَان بِمثل هَذِه الْأُمُور وَالْجمع بَين أشتاتها حَتَّى
تنتظم وتتسق أَمر تعجز عَنهُ قوى الْبشر وَلَا تبلغه قدرتهم فَانْقَطع الْخلق دونه
وعجزوا عَن معارضته بِمثلِهِ أَو مناقضته فِي شكله اهـ
وَقَالَ إِمَام الْمُتَكَلِّمين على طَريقَة السّلف تَقِيّ الدّين أَحْمد بن
تَيْمِية فِي الرسَالَة الملقبة بالتسعينية وَهِي رِسَالَة تبلغ مجلدا كَبِيرا ألفها
فِي الرَّد على الْمُتَكَلِّمين على طَريقَة الْخلف فِي مَسْأَلَة الْكَلَام فِي الْوَجْه
الثَّالِث وَالسِّتِّينَ وَيجب أَن يعلم أصلان عظيمان
أَحدهمَا أَن الْقُرْآن
لَهُ بِهَذَا اللَّفْظ وَالنّظم الْعَرَبِيّ اخْتِصَاص لَا يُمكن أَن يماثله فِي ذَلِك
شَيْء أصلا أَعنِي خَاصَّة فِي اللَّفْظ وخاصة فِيمَا دلّ عَلَيْهِ من الْمَعْنى وَلِهَذَا
لَو فسر الْقُرْآن أَو ترْجم فالتفسير والترجمة قد يَأْتِي بِأَصْل الْمَعْنى أَو بِمَا
يقرب مِنْهُ وَأما الْإِتْيَان بِلَفْظ يبين الْمَعْنى كبيان لفظ الْقُرْآن فَهَذَا
غير مُمكن أصلا وَلِهَذَا كَانَ أَئِمَّة الدّين على أَنه لَا يجوز أَن يقْرَأ بِغَيْر
الْعَرَبيَّة لَا مَعَ الْقُدْرَة عَلَيْهَا وَلَا مَعَ الْعَجز عَنْهَا لِأَن ذَلِك
يُخرجهُ عَن أَن يكون هُوَ الْقُرْآن الْمنزل وَلَكِن يجوز تَرْجَمته كَمَا يجوز تَفْسِيره
وَإِن لم تجز قِرَاءَته بِأَلْفَاظ التَّفْسِير وَهِي إِلَيْهِ أقرب من أَلْفَاظ التَّرْجَمَة
بِأَلْفَاظ أُخْرَى
(1)توجيه النظر إلى أصول الأثر: طاهر بن صالح (أو محمد صالح) ابن أحمد بن موهب،
السمعوني الجزائري، ثم الدمشقيّ (ت: 1338هـ) المحقق: عبد الفتاح أبو غدة - مكتبة المطبوعات الإسلامية – حلب – ط1 - 1416هـ - 1995م.
(4)
الأَصْل الثَّانِي أَنه إِذا ترْجم أَو قرئَ بالترجمة فَلهُ معنى يخْتَص بِهِ
لَا يماثله فِيهِ كَلَام أصلا وَمَعْنَاهُ أَشد مباينة لسَائِر مَعَاني الْكَلَام من
مباينة لَفظه ونظمه لسَائِر اللَّفْظ وَالنّظم والإعجاز فِي مَعْنَاهُ أعظم بِكَثِير
كثير من الإعجاز فِي لَفظه وَقَوله تَعَالَى {قل لَئِن اجْتمعت الْإِنْس وَالْجِنّ
على أَن يَأْتُوا بِمثل هَذَا الْقُرْآن لَا يأْتونَ بِمثلِهِ وَلَو كَانَ بَعضهم لبَعض
ظهيرا} يتَنَاوَل ذَلِك كُله انْتهى
هَذَا وَلم يزل أَمر الحَدِيث فِي عصر الصَّحَابَة وَأول عصر التَّابِعين على
مَا ذكرنَا وَلما أفضت الْخلَافَة إِلَى من قَامَ بِحَقِّهَا عمر بن عبد الْعَزِيز
أَمر بِكِتَابَة
الحَدِيث وَكَانَت مبايعته بالخلافة فِي صفر سنة تسع وَتِسْعين ووفاته لخمس
بَقينَ من رَجَب سنة إِحْدَى ومئة وعاش أَرْبَعِينَ سنة وأشهرا وَكَانَ مَوته بالسم
فَإِن بني أُميَّة ظهر لَهُم أَنه إِن امتدت أَيَّامه أخرج الْأَمر من أَيْديهم وَلم
يعْهَد بِهِ إِلَّا لمن يصلح لَهُ فعاجلوه
قَالَ البُخَارِيّ فِي صَحِيحه فِي كتاب الْعلم وَكتب عمر بن عبد الْعَزِيز
إِلَى أبي بكر بن حزم انْظُر مَا كَانَ من حَدِيث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فاكتبه فَإِنِّي خفت دروس الْعلم وَذَهَاب الْعلمَاء
وَأَبُو بكر هَذَا كَانَ نَائِب عمر بن عبد الْعَزِيز فِي الإمرة وَالْقَضَاء
على الْمَدِينَة روى عَن السَّائِب بن يزِيد وَعباد بن تَمِيم وَعَمْرو بن سليم الزرقي
وروى عَن خَالَته عمْرَة وَعَن خالدة ابْنة أنس وَلها صُحْبَة
قَالَ مَالك لم يكن أحد بِالْمَدِينَةِ عِنْده من علم الْقَضَاء مَا كَانَ عِنْد
أبي بكر بن حزم وَكتب إِلَيْهِ عمر بن عبد الْعَزِيز أَن يكْتب لَهُ من الْعلم مَا
عِنْد عمْرَة وَالقَاسِم فَكَتبهُ لَهُ وَأخذ عَنهُ معمر وَالْأَوْزَاعِيّ وَاللَّيْث
وَمَالك وَابْن أبي ذِئْب وَابْن إِسْحَاق وَغَيرهم وَكَانَت وَفَاته فِيمَا قَالَه
الْوَاقِدِيّ وَابْن سعد وَجَمَاعَة سنة عشْرين ومئة
وَأول من دون الحَدِيث بِأَمْر عمر بن عبد الْعَزِيز مُحَمَّد بن مُسلم بن عبيد
الله بن عبد الله بن شهَاب الزُّهْرِيّ الْمدنِي أحد الْأَئِمَّة الْأَعْلَام وعالم
أهل الْحجاز وَالشَّام
أَخذ عَن ابْن عمر وَسَهل بن سعد وَأنس بن مَالك ومحمود بن الرّبيع وَسَعِيد
بن الْمسيب وَأبي أُمَامَة بن سهل وطبقتهم من صغَار الصَّحَابَة وكبار التَّابِعين
وَأخذ عَنهُ معمر وَالْأَوْزَاعِيّ وَاللَّيْث وَمَالك وَابْن أبي ذِئْب وَغَيرهم
ولد سنة خمسين وَتُوفِّي سنة أَربع وَعشْرين ومئة
قَالَ عبد الرَّزَّاق سَمِعت معمرا يَقُول كُنَّا نرى أَنا قد أكثرنا عَن الزُّهْرِيّ
حَتَّى قتل الْوَلِيد بن يزِيد فَإِذا الدفاتر قد حملت على الدَّوَابّ من خزائنه يَقُول
من علم الزُّهْرِيّ
ثمَّ شاع التدوين فِي الطَّبَقَة الَّتِي تلِي طبقَة الزُّهْرِيّ ولوقوع ذَلِك
فِي كثير من الْبِلَاد وشيوعه بَين النَّاس اعتبروه الأول فَقَالُوا كَانَت الْأَحَادِيث
فِي عصر الصَّحَابَة وكبار التَّابِعين غير مدونة فَلَمَّا انتشرت الْعلمَاء فِي الْأَمْصَار
وشاع الابتداع دونت ممزوجة بأقوال الصَّحَابَة وفتاوى التَّابِعين
وَأول من جمع ذَلِك ابْن جريح بِمَكَّة وَابْن إِسْحَاق أَو مَالك بِالْمَدِينَةِ
وَالربيع بن صبيح أَو سعيد بن أبي عرُوبَة أَو حَمَّاد بن سَلمَة بِالْبَصْرَةِ وسُفْيَان
الثَّوْريّ بِالْكُوفَةِ وَالْأَوْزَاعِيّ بِالشَّام وهشيم بواسط وَمعمر بِالْيمن وَجَرِير
بن عبد الحميد بِالريِّ وَابْن الْمُبَارك بخراسان وَكَانَ هَؤُلَاءِ فِي عصر وَاحِد
وَلَا يدْرِي أَيهمْ سبق قَالَ الْحَافِظ ابْن حجر إِن مَا ذكر إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ
إِلَى الْجمع فِي الْأَبْوَاب وَأما جمع حَدِيث إِلَى مثله فِي بَاب وَاحِد فقد سبق
إِلَيْهِ الشّعبِيّ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنهُ أَنه قَالَ هَذَا بَاب من الطَّلَاق جسيم
وسَاق فِيهِ أَحَادِيث اهـ
وتلا الْمَذْكُورين كثير من أهل عصرهم إِلَى أَن رأى بعض الْأَئِمَّة إِفْرَاد
أَحَادِيث النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَاصَّة وَذَلِكَ على رَأس المئتين فصنف
عبيد الله بن مُوسَى الْعَبْسِي الْكُوفِي مُسْندًا وصنف مُسَدّد الْبَصْرِيّ مُسْندًا
وصنف أَسد بن مُوسَى مُسْندًا وصنف نعيم بن حَمَّاد الْخُزَاعِيّ مُسْندًا ثمَّ اقتفى الْحفاظ آثَارهم فصنف الإِمَام أَحْمد
مُسْندًا وَكَذَلِكَ إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه وَعُثْمَان بن أبي شيبَة وَغَيرهم
(5)
وَلم يزل التَّأْلِيف فِي الحَدِيث مُتَتَابِعًا إِلَى أَن ظهر الإِمَام البُخَارِيّ
وبرع فِي علم الحَدِيث وَصَارَ لَهُ فِيهِ الْمنزلَة الَّتِي لَيْسَ فَوْقهَا منزلَة
فَأَرَادَ أَن يجرد الصَّحِيح ويجعله فِي كتاب على حِدة ليخلص طَالب الحَدِيث من عناء
الْبَحْث وَالسُّؤَال فألف كِتَابه الْمَشْهُور وَأورد فِيهِ مَا تبين لَهُ صِحَّته
وَكَانَت الْكتب قبله ممزوجا فِيهَا الصَّحِيح بِغَيْرِهِ بِحَيْثُ لَا يتَبَيَّن
للنَّاظِر فِيهَا دَرَجَة الحَدِيث من الصِّحَّة إِلَّا بعد الْبَحْث عَن أَحْوَال
رُوَاته وَغير ذَلِك مِمَّا هُوَ مَعْرُوف عِنْد أهل الحَدِيث فَإِن لم يكن لَهُ وقُوف
على ذَلِك اضْطر إِلَى أَن يسْأَل أَئِمَّة الحَدِيث عَنهُ فَإِن لم يَتَيَسَّر لَهُ
ذَلِك بَقِي ذَلِك الحَدِيث مَجْهُول الْحَال عِنْده
واقتفى أثر الإِمَام البُخَارِيّ فِي ذَلِك الإِمَام مُسلم بن الْحجَّاج وَكَانَ
من الآخذين عَنهُ والمستفيدين مِنْهُ فألف كِتَابه الْمَشْهُور
ولقب هَذَانِ الكتابان بالصحيحين فَعظم انْتِفَاع النَّاس بهما وَرَجَعُوا عِنْد
الِاضْطِرَاب إِلَيْهِمَا وألفت بعدهمَا كتب لَا تحصى فَمن أَرَادَ الْبَحْث عَنْهَا
فَليرْجع إِلَى مظان ذكرهَا
هَذَا وَقد توهم أنَاس مِمَّا ذكر آنِفا أَنه لم يُقيد فِي عصر الصَّحَابَة
وأوائل عصر التَّابِعين بِالْكِتَابَةِ شَيْء غير الْكتاب الْعَزِيز وَلَيْسَ الْأَمر
كَذَلِك فقد ذكر بعض الْحفاظ أَن زيد بن ثَابت ألف كتابا فِي علم الْفَرَائِض
وَذكر البُخَارِيّ فِي صَحِيحه أَن عبد الله بن عَمْرو كَانَ يكْتب الحَدِيث
فَإِنَّهُ روى عَن أبي هُرَيْرَة أَنه قَالَ مَا من أحد من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أَكثر حَدِيثا عَنهُ مني إِلَّا مَا كَانَ من عبد الله بن عَمْرو فَإِنَّهُ
كَانَ يكْتب وَلَا أكتب
وَذكر مُسلم فِي صَحِيحه كتابا ألف فِي عهد ابْن عَبَّاس فِي قَضَاء عَليّ فَقَالَ
حَدثنَا دَاوُد بن عَمْرو الضَّبِّيّ حَدثنَا نَافِع بن عمر عَن ابْن أبي مليكَة قَالَ
كتبت إِلَى ابْن عَبَّاس أسأله أَن يكْتب لي كتابا ويخفي عني فَقَالَ ولد نَاصح أَنا
أخْتَار لَهُ الْأُمُور اخْتِيَارا وأخفي عَنهُ قَالَ فَدَعَا بِقَضَاء عَليّ فَجعل
يكْتب مِنْهُ أَشْيَاء ويمر بِهِ الشَّيْء فَيَقُول وَالله مَا قضى بِهَذَا عَليّ إِلَّا
أَن يكون ضل
وَحدثنَا عَمْرو النَّاقِد حَدثنَا سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن هِشَام بن حُجَيْر
عَن طَاوس قَالَ أُتِي ابْن عَبَّاس بِكِتَاب فِيهِ قَضَاء عَليّ فمحاه إِلَّا قدر
وَأَشَارَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة بذراعه
حَدثنَا حسن بن عَليّ الْحلْوانِي حَدثنَا يحيى بن آدم حَدثنَا ابْن إِدْرِيس
عَن الْأَعْمَش عَن أبي إِسْحَاق قَالَ لما أَحْدَثُوا تِلْكَ الْأَشْيَاء بعد عَليّ
عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ رجل من أَصْحَاب عَليّ قَاتلهم الله أَي علم أفسدوا
وَحدثنَا عَليّ بن خشرم أخبرنَا أَبُو بكر يَعْنِي ابْن عَيَّاش قَالَ سَمِعت
الْمُغيرَة يَقُول لم يكن يصدق على عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام فِي الحَدِيث عَنهُ إِلَّا
من أَصْحَاب عبد الله بن مَسْعُود اهـ
وَمن خطوط أَصْحَاب الحَدِيث مثل سُفْيَان بن عُيَيْنَة وسُفْيَان الثَّوْريّ
وَالْأَوْزَاعِيّ وَغَيرهم
تَنْبِيه قد نقلنا آنِفا مَا ذكره الْعلمَاء الْأَعْلَام فِي طَرِيق الْجمع
بَين الحَدِيث الَّذِي ورد فِي منع كِتَابَة مَا سوى الْقُرْآن وَالْأَحَادِيث الَّتِي
وَردت فِي إجَازَة ذَلِك وَقد سلك ابْن قُتَيْبَة فِيهِ طَرِيقا آخر فَقَالَ فِي تَأْوِيل
مُخْتَلف الحَدِيث وَهُوَ كتاب أَلفه فِي الرَّد على الْمُتَكَلِّمين الَّذين أولعوا بثلب
أهل الحَدِيث ورميهم بِحمْل الْكَذِب وَرِوَايَة المتناقض حَتَّى وَقع الِاخْتِلَاف
وَكَثُرت النَّحْل وتقطعت العصم وتعادى الْمُسلمُونَ وأكفر بَعضهم بَعْضًا وَتعلق كل
فريق مِنْهُم لمذهبه بِجِنْس من الحَدِيث
قَالُوا أَحَادِيث متناقضة قَالُوا رويتم عَن همام عَن زيد بن أسلم عَن عَطاء
ين يسَار عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
لَا تكْتبُوا عني شَيْئا سوى الْقُرْآن فَمن كتب عني شَيْئا فليمحه
ثمَّ رويتم عَن ابْن جريح عَن عَطاء عَن عبد الله بن عَمْرو قَالَ قلت يَا رَسُول
الله أقيد الْعلم قَالَ نعم قيل وَمَا تَقْيِيده قَالَ كِتَابَته
ورويتم عَن حَمَّاد بن سَلمَة عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق عَن عَمْرو بن شُعَيْب
عَن أَبِيه عَن جده قَالَ قلت يَا رَسُول الله أكتب كل مَا أسمع مِنْك قَالَ نعم قلت
فِي الرِّضَا وَالْغَضَب قَالَ نعم فَإِنِّي لَا أَقُول فِي ذَلِك إِلَّا الْحق
(6)
قَالُوا وَهَذَا تنَاقض وَاخْتِلَاف
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَنحن نقُول إِن فِي هَذَا مَعْنيين
أَحدهمَا أَن يكون من مَنْسُوخ السّنة بِالسنةِ كَأَنَّهُ نهى فِي أول الْأَمر
أَن يكْتب قَوْله ثمَّ رأى بعد لما علم أَن السّنَن تكْثر وتفوت الْحِفْظ أَن تكْتب
وتقيد
وَالْمعْنَى الآخر أَن يكون خص بِهَذَا عبد الله بن عَمْرو لِأَنَّهُ كَانَ
قَارِئًا للكتب الْمُتَقَدّمَة وَيكْتب بالسُّرْيَانيَّة والعربية وَكَانَ غَيره من
الصَّحَابَة أُمِّيين لَا يكْتب مِنْهُم إِلَّا الْوَاحِد والاثنان وَإِذا كتب لم يتقن
وَلم يصب التهجي فَلَمَّا خشِي عَلَيْهِم الْغَلَط فِيمَا يَكْتُبُونَ نَهَاهُم وَلما
أَمن على عبد الله بن عَمْرو ذَلِك أذن لَهُ)) (1) .
(1)توجيه النظر إلى أصول الأثر: طاهر بن صالح (أو محمد صالح) ابن أحمد بن موهب،
السمعوني الجزائري، ثم الدمشقيّ (ت: 1338هـ) المحقق: عبد الفتاح أبو غدة - مكتبة المطبوعات الإسلامية – حلب – ط1 - 1416هـ - 1995م.
(7)
1. المبشرون والمستشرقون في موقفهم من الإسلام : محمد البهي (المتوفى: 1402هـ)
- مطبعة الأزهر.
2. دفاع عن السُنَّة ورد شبه المُسْتَشْرِقِينَ والكتاب المعاصرين: محمد بن
محمد بن سويلم أبو شُهبة (المتوفى: 1403هـ) - مجمع البحوث الإسلامية – القاهرة –ط2 - 1406 هـ
- 1985 م.
3. شبهات حول السنة : عبد الرزاق عفيفي (المتوفى: 1415هـ) - وزارة الشئون الإسلامية
والأوقاف والدعوة والإرشاد - المملكة العربية السعودية – ط1- 1425هـ .
4. المحاضرة الدفاعية عن السنة المحمدية : أبو أحمد محمد أمان بن علي جامي علي
(المتوفى: 1415هـ) - دار الأصفهاني وشركائه, جدة .
5. السُنَّة في مواجهة شُبُهات الاستشراق (ضمن بحوث المؤتمر العالمي الثالث
للسيرة والسُنَّة النبوية): أحمد أنور سيد أحمد الجندي (المتوفى: 1422هـ) - عني بطبعه
ومراجعته خادم العلم: عبد الله بن إبراهيم الأنصاري -المكتبة العصرية، صيدا – بيروت-ط1-1401
هـ - 1981 م .
6. المستشرقون والتراث: عبد العظيم محمود الديب (المتوفى: 1431هـ) - دار الوفاء
للطباعة والنشر والتوزيع – المنصورة- مصر – ط3- 1413 هـ - 1992.
7. الرد على مزاعم المستشرقين جولد تسهير ويوسف شاخت ومن أيدهما من المستغربين:
عبد الله بن عبد الرحمن الخطيب -مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة.
8. كتابة الحديث بين النهي والإذن:أحمد بن محمد حميد- مجمع الملك فهد لطباعة
المصحف الشريف بالمدينة المنورة.
9. كتابة الحديث في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته وأثرها في حفظ السنة
النبوية: أحمد بن معبد بن عبد الكريم بن سليمان بن حسن كُلَيْبَاتِى - مجمع الملك فهد
لطباعة المصحف بالمدينة المنورة.
10. بحوث في تاريخ السنة المشرفة : أكرم بن ضياء العمري - بساط – بيروت –
ط4.
11. تدوين السنة النبوية نشأته وتطوره من القرن الأول إلى نهاية القرن التاسع
الهجري: أبو ياسر محمد بن مطر بن عثمان آل مطر الزهراني (المتوفى: 1427هـ) - دار الهجرة
للنشر والتوزيع، الرياض، المملكة العربية السعودية – ط1- 1417هـ/1996م .
تعليقات
إرسال تعليق
علق هنا...