دراسة أصولية الحديث (أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ)


 إعداد: معتز خطيب سرطاوي

1-      تخريج الحديث[1]

روي من حديث عائشة و أنس بن مالك و طلحة بن عبيد الله و رافع بن خديج و جابر بن عبد الله رضوان الله عليهم ، و روي كذلك من مرسل أبي مجلز رحمه الله :

1- حديث عائشة :

أخرجه أحمد في مسنده (24964) ، و مسلم في صحيحه (2363) – و من طريقه ابن حزم في الاحكام (5/138) -، و ابن ماجه في سننه (2471) ، و أبو يعلى في مسنده(3480) و (3531)– و عنه ابن حبان في صحيحه (22) – و ابن خزيمة في كتاب التوكل كما في إتحاف المهرة (1/485) لابن حجر ، و الطحاوي في مشكل الآثار (1722) ، و تمام في فوائده (1167) .

و حديث عائشة رواه حماد بن سلمة مقرونا مع حديث أنس بن مالك .

كلهم من طريق حماد بن سلمة ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه عروة بن الزبير ، عن عائشة رضي الله عنها أَنّ النَّبِيَّ صَلَّى الِلَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ أَصْوَاتًا ، فَقَالَ : " مَا هَذِهِ الأَصْوَاتُ ؟ " ، قَالُوا : النَّخْلُ يَأْبِرُونَهُ ، فَقَالَ : " لَوْ لَمْ يَفْعَلُوا لَصَلُحَ ذَلِكَ " ، فَأَمْسَكُوا ، فَلَمْ يَأْبِرُوا عَامَّتَهُ ، فَصَارَ شِيصًا ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى الِلَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : " كَانَ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِ دُنْيَاكُمْ فَشَأْنُكُمْ ، وَكَانَ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِ دِينِكُمْ فَإِلَيَّ " ، و في لفظ مسلم :" فَقَالَ : مَا لِنَخْلِكُمْ ، قَالُوا : قُلْتَ كَذَا وَكَذَا ، قَالَ : أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ " .

5- حديث رافع بن خديج :

أخرجه مسلم في صحيحه (2362) – و من طريقه القاضي عياض في الشفا (2/183-184) - و ابن حبان في صحيحه (23) ، و الطبراني في المعجم الكبير (4424)

كلهم من طريق النضر بن محمد عن عكرمة بن عمار عن أبو النجاشي عطاء بن صهيب مولى رافع عن رافع بن خديج قَالَ : " قَدِمَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ ، وَهُمْ يَأْبُرُونَ النَّخْلَ ، يَقُولُونَ يُلَقِّحُونَ النَّخْلَ ، فَقَالَ : مَا تَصْنَعُونَ ؟ قَالُوا : كُنَّا نَصْنَعُهُ ، قَالَ : لَعَلَّكُمْ لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا كَانَ خَيْرًا ، فَتَرَكُوهُ ، فَنَفَضَتْ أَوْ فَنَقَصَتْ ، قَالَ : فَذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ ، فَقَالَ : إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ ، إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ دِينِكُمْ ، فَخُذُوا بِهِ ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ رَأْيٍ ، فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ " و هذا لفظ مسلم .

قلت : و فيه النضر بن محمد بن موسى أبو محمد اليمامي و هو ثقة له أفراد ، و لا يضر تفرده بها .

و فيه أيضا عكرمة بن عمار العجلى أبو عمار اليمامي ، و هو ثقة ، و في بعض حديثه عن يحيى بن أبي كثير اضطراب و ضعف .

قلت : و هذا الحديث ليس عن يحيى بن أبي كثير ، فالاسناد صحيح ان شاء الله .

ملحوظة : وقع في اسناد الطبراني " المنصور بن محمد " بدلا من "النضر بن محمد " و هو تحريف و خطأ ظاهر ..

 

الخلاصة :

الحديث صحيح لا غبار عليه .

فقد صح من حديث أنس بن مالك ، و طلحة بن عبيد الله ، و رافع بن خديج رضوان الله عليهم جميعا .

و أما حديث عائشة فأنه ضعيف لأن الصواب فيه الارسال عن عروة بن الزبير مرسلا .

و أما حديث جابر بن عبد الله فاسناده ضعيف لأن مداره على مجالد بن سعيد و هو ضعيف اختلط بآخره .

و حديث أبي مجلز ضعيف مرسل لأنه تابعي .

أقوال  علماء الأصول

استخرج علماء الأصول من هذا الحديث عدة مسائل

أ‌.         المسألة الأولى (هل يقر الرسول صلى الله عليه وسلم أحدا على كذب)أو بمعنى آخر (مسألة أخبر مخبر خبرا بحضرته عليه السلام فلم ينكر صلى الله عليه وسلم ذلك عليه)

(وكذا المخبر بمسمع من النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي بمكان يسمعه منه النبي - صلى الله عليه وسلم - (ولا حامل على التقرير) للنبي - صلى الله عليه وسلم - (و) على (الكذب) للمخبر صادق فيما أخبر به دينيا كان أو دنيويا؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يقر أحدا على كذب (خلافا للمتأخرين) منهم الآمدي وابن الحاجب في قولهم: لا يدل سكوت النبي - صلى الله عليه وسلم - على صدق المخبر: أما في الديني فلجواز أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - بينه أو أخر بيانه بخلاف ما أخبر به المخبر، وأما في الدنيوي فلجواز أن لا يكون النبي يعلم كما في لقاح النخل. [5]

ب: ويتفرع من الحديث قاعدة شرعية وهي (فهي أن الأصل في العادات والمعاملات: الإباحة والحل)

ووجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم رَدَّ الأمر في التعامل في الزراعة إلى الخلق، وجعله ليس من جنس الشرع الذي يتوقف فيه حتى يأتي الأمر من الرب سبحانه [6]

ج: قال الشوكاني في "إرشاد الفحول" ص 238 و 2: 313، "وأجمعوا على أنه يجوز للأنبياء صلوات الله عليهم الإجتهاد فيما يتعلق بمصالح الدنيا وتدبير الحروب ونحوها، حكى هذا الإجماع سليم الرازي وابن حزم. وذلك وقع من نبينا - صلى الله عليه وسلم -، ومنه ما كان قد عزم عليه من ترك تلقيح ثمار المدينة".[7]

د: هل عصمة الأنبياء تشمل الصغائر والكبائر أم الصغائر فقط ؟

 (إِذا أخبر) مخبر خَبرا) (بِحَضْرَتِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلم يُنكر) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذَلِك عَلَيْهِ (كَانَ) الْخَبَر (ظَاهرا فِي صدقه) أَو صدق مخبره أَو صدق نَفسه (لَا قَطْعِيا لاحْتِمَال أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يسمعهُ) أَي ذَلِك الْخَبَر لاشتغاله عَنهُ بِمَا هُوَ أهم مِنْهُ (أَو لم يفهمهُ) لرداءة عبارَة الْمخبر مثلا (أَو كَانَ) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (بَين نقيضه) أَي ذَلِك الْخَبَر قبل (أَو رأى تَأْخِير الْإِنْكَار) لمصْلحَة فِي تَأْخِيره (أَو مَا علم كذبه) لكَونه دنيويا، وَقد قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم

" انتم أعلم بِأَمْر دنياكم " رَوَاهُ مُسلم (أَو رَآهُ) أَي ذَلِك الْخَبَر (صَغِيرَة وَلم يحكم بإصراره) أَي الْمخبر عَلَيْهَا، قَالُوا: وَلَو قدم عدم جَمِيع هَذِه الِاحْتِمَالَات فالصغيرة غير ممتنعة على الْأَنْبِيَاء.[8]



[1] نقل هذا التخريج كاملا من موقع (الألوكة المجلس العلمي) اشراف د. سعد بن عبد الله الحميدد. خالد بن عبد الرحمن الجريسي, ونشر بتاريخ 2010-11-01م

[2] شرح النووي على مسلم (15/ 116)

[3] السنة والتشريع - موسى شاهين لاشين (ص: 34)

[4] وردت هذه الردود في كتاب (تحطيم الصنم العلماني جولة جديدة في معركة النظام السياسي الإسلامي), محمد شاكر الشريف, دار البيارق (ص163-ص172)

[5] غاية الوصول في شرح لب الأصول (ص: 101).

[6] مجموعة الفوائد البهية على منظومة القواعد الفقهية (ص: 76)

[7] الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام (ص: 107)

[8] تيسير التحرير (3/ 71)

 

ناقش قول اللادينيين نقاشا علميا:

وكان من أقوى الردود ما أورده الشيخ محمد شاكر الشريف في كتابه "تحطيم الصنم العلماني" وقد راجعت الكتاب شخصيا واستخلصت هذه النتاجات

أ: فقد جاء في ألفاظ الحديث ورواياته: "ما أظن يغني ذلك شيئاً" وجاء "لعلكم لو لم تفعلوا كان خيراً"، مما يبين أن الرسول صلى الله عليه وسلم يتحدث عن ظن أو خبرة دنيوية لا علاقة لها بالتشريع،

يقول الامام النووي(أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ قَالَ الْعُلَمَاءُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ رَأْيِي أَيْ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا وَمَعَايِشِهَا لَا عَلَى التَّشْرِيعِ فَأَمَّا مَا قَالَهُ بِاجْتِهَادِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَآهُ شَرْعًا يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ وَلَيْسَ إِبَارُ النَّخْلِ مِنْ هَذَا النَّوْعِ بَلْ مِنَ النَّوْعِ الْمَذْكُورِ قَبْلَهُ مَعَ أَنَّ لَفْظَةَ الرَّأْيِ إِنَّمَا أَتَى بِهَا عِكْرِمَةُ عَلَى الْمَعْنَى لِقَوْلِهِ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ قَالَ عِكْرِمَةُ أَوْ نَحْوُ هَذَا فَلَمْ يُخْبِرْ بِلَفْظِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحَقَّقًا قَالَ الْعُلَمَاءُ وَلَمْ يَكُنْ هَذَا الْقَوْلُ خَبَرًا وَإِنَّمَا كَانَ ظَنًّا كَمَا بَيَّنَهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَاتِ قَالُوا وَرَأْيُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أُمُورِ الْمَعَايِشِ وَظَنُّهُ كَغَيْرِهِ فَلَا يُمْتَنَعُ وُقُوعُ مِثْلِ هَذَا وَلَا نَقْصَ فِي ذَلِكَ وَسَبَبُهُ تَعَلُّقُ هِمَمِهِمْ بِالْآخِرَةِ وَمَعَارِفِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ) [2]

ب: فقد قيد العلماء "أمر الدنيا و معايشها" بأن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قاله "على سبيل الرأي" أي أنه قاله "لا على سبيل التشريع" وهذا التقييد يعني أمرين:

الأول : أن الأمور التي يقال فيها : "أنتم أعلم بأمور دنياكم" هي تلك الأمور التي لم تتناولها الأدلةالشرعية تناولاً عاماً أو تناولاً خاصاً، أو الأمور التي تناولتها السنة لا علىسبيل التشريع وإنما على سبيل الرأي فقط.

الثاني : أن الأصل في كل ما تناولته النصوص الشرعية -ولو كان متعلقاً بأمر الدنيا أو المعاش أو غيره- أن يكون على سبيل التشريع إلا أن يدل الدليل أو القرينة على خلاف ذلك.

ج: أن يقال إن "أمر الدنيا" الذي عناه الرسول صلى الله عليه وسلم في حديثه،هو تأبير النخل فلا يقاس عليه إلا ما جرى مجراه وكان على شاكلته، وهو الخبرة العملية المتعلقة بشأن من الشئون المباحة التي لم يتعلق بها الخطاب الشرعي لا أمراًولا نهياً، وليس المراد بذلك كل أمر متعلق بالدنيا، لأنه قد جاءت نصوص شرعية كثيرة في أمور الدنيا، وقد تعلق بها الخطاب الشرعي أمراً ونهياً

وعلى سبيل المثال: الطب والدواء، فهو أمر من المصالح والمنافع التي يحتاجها الناس، وهو أيضاً أمر للخبرة فيه دخل كبير، ومع ذلك فقد تعلقبه الخطاب الشرعي،

وعلى سبيل المثال أيضاً: اللباس والزينة، ما يلبس المرء وما لا يلبس وتفاصيل كثيرة متعلقة بذلك هي من الأمور الدنيوية، ومع ذلك فقد تعلق بهاالخطاب الشرعي، بحيث يبين ما يجوز لبسه وما لا يجوز، ويبين كيفيات اللباس المباحة والممنوعة إلى غير ذلك من التفاصيل،

(إنَّ هناك أعمالاً للبشر تكتسب عن طريق العلم والتدريب والممارسة والتجارب والخبرة. كالزراعة والنجارة والحدادة والغزل والنسيج والحياكة ومعرفة خصائص النباتات والمعادن ونحو ذلك مما يتخصَّصُ فيه ويُجيده بعض البشر فهذه الأمور ليست من مهمة الرسالة، وليست من مهمة الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا من مؤهلاته أنْ يكون ماهراً فيها، ولا خبيراً بدقائقها، ولا يضيره أنه ليس عالماً بالذرةولا بطبقات الأرض، ولا بتفاعل الكيمياويات، ولا ينقل الصور والأصوات عبر الآلات، ومثل ذلك أمور الطب وفنون الحرب)[3]

 

فهذه الأمور ليست من مهمة الرسالة

د: أن يقال ما هو الضابط الذي تعتمدون عليه في التفريق بين "أمر الدنيا" الموكول للبشر وبين "أمر الدين" الموكول إلى الشريعة؟

وقد تم الفصل الكامل بين هاتين الدائرتين: دائرة "أمورالدنيا"، ودائرة "أمور الدين"، وترتب على ذلك أن الدين -عندهم- أصبح محصوراً في نطاق الإنسان الفرد وحده، أو في داخل الكنيسة حيث يؤدي هؤلاء ما يعتقدون أنه من الدين عندهم، حتى إذا خرجوا من تلك الكنائس إلى واقع الحياة لم يكن للدين أدنى سلطان على تنظيم الحياة وقيادتها إلا ما كان من بعض الوصايا أو العظات الخلقية غيرالملزمة ؛ لأن ذلك خارج عن نطاقه وصلاحياته.

بينما أمور الدين تشمل عند المسلمين كل ما تعلق به الخطاب الشرعي أمراً أو نهياً أو خبراً، فما تعلق به الخطاب على وجه الأمر فيكون من الدين فعل المأمور به، وما تعلق به الخطاب على وجه النهي فيكون من الدين اجتناب المنهي عنه، وما تعلق به الخطاب على جهة الخبر، فيكون من الدين تصديق ما أخبر به.

 

تعليقات